على عتبات التحول الحضاري: الاشتراكية اقتراح التاريخ

على عتبات التحول الحضاري: الاشتراكية اقتراح التاريخ

كل شيء من حولنا يدفعنا للقول: إننا نعيش في عالمٍ يتحول، الارتفاع الهائل في أعداد المُعطَّلين الجدد عن العمل في العالم، الأعداد المتزايدة من الشركات التي تُغلق جراء الأزمة الاقتصادية، انهيار أسعار النفط، والانكشاف التام لدرجة الضعف التي وصلت إليها المنظومة الرأسمالية.

في أثناء كتابة هذا المقال، كانت التقديرات التي تتنبأ بانكماشات غير مسبوقة في النواتج المحلية الإجمالية-لمعظم الدول- تتزاحم في المواقع الاقتصادية، ومطالبات الشركات بخطط إنقاذ حكومية تتصاعد، أما الأخبار عن قرب إفلاس عدد كبير من المصارف وشركات الطيران والمنشآت السياحية والترفيهية والتعليمية فقد باتت أخباراً روتينية لم تعد تثير درجة الدهشة نفسها التي كانت تثيرها سابقاً.

الوباء ليس مفاجأة

كما تقتضي قوانين اللعبة في الأزمات، تجهّز جيش المحللين النيوليبراليين الذي صدَّع رؤوسنا بمقولات «التقشف المالي» وضرورة «كبح جماح الدولة»، ليرتدي ثوب الدفاع عن دور الدولة مطالباً إياها بلعب الدور الوحيد المسموح لها- من وجهة نظره- أن تلعبه: إنقاذ القطاع الخاص عبر المزيد من الإنفاق الحكومي لمصلحة الشركات. هذا الجيش نفسه الذي يُحاول أن يروج لفكرة أن الأمور كانت تسير على ما يُرام قبل أن يُشكّل فيروس كورونا مفاجأة للمنظومة.

لنقل الأمور كما هي: فكرة الوباء نفسها، بغض النظر عن تفاصيلها، لم تكن مستبعدة. وعلى مدار عقود من الزمن جرت مناقشة سيناريوهات شبيهة تماماً بالسيناريو الذي نعيشه اليوم. في هذه الجزئية، يكاد ينسى من يُحاول إقناعنا بأن الفيروس قد فاجأه، أن المجتمع العلمي طرح هذا السؤال مراتٍ عدة، منذ التجارب المتعلقة بفيروس الإيدز في ثمانينيات القرن الماضي، إلى انتشار السارس في عام 2003، وحتى مع ظهور الإيبولا وغير ذلك من الأمراض، كان السؤال حول مصير البشرية في حال انتشار وباءٍ ما حاضراً، وبدلاً من التفكير في طريقة الحفاظ على حياة الناس، انكبت المنظومة التي نعيش في ظلها على تفكيك دور الدولة في المجتمع وتقويضه، وضرب القطاع الصحي (شأنه شأن غيره) بالمزيد من الخصخصة، والحفاظ على هدف الربح أولاً وقبل كل شيء.

وهنا ثمة مسألة لا يصح إغفالها أبداً، هي: أننا نحن البشر- بغربنا وشرقنا- مدينون لدولة اسمها جمهورية الصين الشعبية التي وفّرت لنا وقتاً ثميناً كان ينبغي أن نصرفه في الاستعداد لمواجهة الوباء، وهي ليست مسؤولة إطلاقاً إن كانت نُخبنا الحاكمة قد انصرفت عن هذا الهدف.

والواقع، أن الوباء لم يضرب اقتصادات متماسكة. كلنا نذكر أن التقديرات بقرب أزمة اقتصادية عالمية كبيرة كانت حاضرة، ووُضِعت لها تواقيت تتراوح بين عامي 2019-2020. ما فعله الوباء لا يتجاوز حدود أنه كشف أن اقتصادات «لا يُشقُّ لها غُبار» كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا هي اقتصادات غير قادرة على التعامل مع الأزمات، ولا يمكنها إنتاج ما يكفي من الكمامات ولوازم الوقاية الصحية للأطباء والممرضين وأجهزة التنفس الاصطناعي واختبارات الكشف عن الفيروس.

نمط استنفد نفسه

رسخت الأزمة الصحية والانهيار الاقتصادي، لا سيما في دول الغرب، فكرة أن الأنظمة الرأسمالية المتوحشة تعيش اليوم أزمة حُكم على المستوى العالمي، وهي غير قادرة على لعب أبسط وظائفها المتمثلة في الحفاظ على حياة الناس وتأمين سُبل عيشهم وتنظيم إنتاجهم.

بعبارة أخرى، دخل العالم اليوم في أزمة كبرى عنوانها الأساسي: أن نمط التنظيم الرأسمالي للمجتمعات قد استنفد نفسه تاريخياً، وهو يهدد اليوم بدفع البشرية خطوات واسعة نحو الحضيض الذي نعيش جزءاً منه اليوم، ولم يعد هنالك سوى مسار وحيد ممكن: إعادة التنظيم على المستوى العالمي وتسريع خلق منظومة بديلة عن المنظومة الرأسمالية المتهالكة. وهذا ما ينبغي النظر إليه لا بوصفه انتقالاً ميكانيكياً من منظومة إلى أخرى بالمعنى الضيق للكلمة، بل بوصفه تحولاً حضارياً شاملاً على المستويات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والثقافية...

في هذا الشأن، لا يُقدّم لنا التاريخ الكثير من الاقتراحات، فإن كانت الحاجة البشرية تتمثل اليوم في ضرورة تأمين فرص العمل والدخول العادلة وإعادة تنظيم الإنتاج على أساس تلبية الحاجات الحقيقية للبشر والحفاظ على البيئة، فإن الاقتراح الوحيد الذي يقدمه التاريخ هو النظام الاشتراكي بوصفه النظام الوحيد القادر على خدمة الأغلبية الساحقة من البشر، وضمان عدم تكرار النتائج الكارثية التي نعيشها اليوم بسبب الطبيعة المتوحشة للرأسمالية الباحثة عن أعلى نسبة ربح بغض النظر عما يُخلّفه ذلك من عواقب وخيمة على الطبيعة التي نحن البشر جزء منها.

وهنا لا يجري الحديث عن نَسخ التجارب الاشتراكية السابقة التي شهدها التاريخ البشري، بل عن اشتراكية في القرن الواحد والعشرين مستفيدة استفادة تامّة من دروس التجارب الاشتراكية السابقة، هذه الاشتراكية التي يطالب الناس بمضمونها اليوم وعلى أوسع نطاق.

في بعض الأحيان يتطلب الأمر أزمة كبرى لنرى بوضوح أن الرعاية الصحية الشاملة، وحق السكن والغذاء والملبس والحق بالمرافق العامة والتعليم المجاني وقبل كل ذلك حقنا بوجود كوكب نظيف وسليم قابل للعيش هي ضرورات مطلقة، سواء كان هنالك فيروس أم لم يكن، وتأمين هذه الحقوق على نحوٍ جدّي (لا بطريقة إنشائية خالية من أية مضامين فعلية كما هو الحال مع نمط التعاطي الرأسمالي في هذه المسألة) هو أمر غير ممكن ما لم تكسر البشرية القيود الرأسمالية المفروضة عليها، وتخطو خطوات حاسمة في صياغة المنظومة البديلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
963
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 12:45