سباق التسلح: أزمة وقت ومال و «خيال علمي»!
في التاسع من الشهر الجاري، قررت شركة «Raytheon Company» الأمريكية المصنعة لصواريخ «كروز» وأنظمة الدفاع الجوي، إلى جانب المجموعة الصناعية العسكرية الأمريكية «United Technologies Corporation»، دمج أصولهما في كيانٍ واحد سيحمل اسم «Raytheon Technologies Corporation»، على أن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ في النصف الأول من عام 2020.
الملفت في الخبر المذكور، هو أن الهدف المعلن من عملية الدمج هذه ينقسم إلى شقين، أولاً: تطوير أنظمة دفاع جوي جديدة في الولايات المتحدة. وثانياً: تطوير أسلحة أمريكية فرط صوتية. أما السبب المباشر لهذه العملية، فيعبّر عنه المسؤولون العسكريون صراحةً: «اللحاق بروسيا والصين لسدّ الثغرات العسكرية الناشئة».
الجانب الأول: تطوير أنظمة الدفاع الجوي
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة الأمريكية واثقة دوماً من التفوق الكامل لمقاتلاتها الجوية مقارنة مع الخصوم المحتملين (روسيا والصين، وغيرهما). على هذا الأساس، يبرر العسكريون الأمريكيون لماذا لم يتم إيلاء الاهتمام الضروري لمنظومات الدفاع الجوي في الولايات المتحدة. ولذلك، نجد اليوم في عتاد الجيش الأمريكي صواريخ محمولة مضادة للطائرات، والتي تجدي في مواجهة الأهداف المنخفضة، ونجد كذلك أنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى مثل: «ثاد» و«باتريوت PAC-2/3»، لكن هذا الجيش يفتقر افتقاراً تاماً لأية منظومات اعتراضية للأهداف الجوية متوسطة المدى. وفي مواجهة هذا الواقع، تضطر واشنطن أن تجبر حلفاءها على شراء منظومة «باتريوت» باهظة الثمن مقارنة بالمنظومات الاعتراضية للأهداف الجوية متوسطة المدى.
لكن أزمة الولايات المتحدة في هذا الشأن ليست أزمة إقناع الحلفاء بشراء منظوماتها الأغلى فحسب، فهي كانت حتى الأمس القريب قادرة على استخدام نفوذها في هذا الشأن، بل إن أزمة أخرى تعترضها، وهي مدى فعالية «البدائل» التي تقدمها: كمثال على ذلك، يؤكد الخبير العسكري الروسي، ألكسي خازبييف، أن السعودية تعتمد على منظومة «باتريوت» الأمريكية لصدّ الصواريخ الباليستية التي يطلقها الحوثيون من اليمن، وهذه الصواريخ هي في الغالب إما صواريخ «سكود» أو تعديلات عليها، وتكلفة الصاروخ الواحد لا تتجاوز بالحد الأقصى عتبة الـ450 ألف دولار، وبينما تحتاج السعودية ما بين 5 إلى 7 صواريخ باتريوت لاعتراض صاروخ باليستي واحد، فإن ثمن كل صاروخ باتريوت يبدأ من 3 ويصل إلى 7 ملايين دولار. هذا في جانب العبء المالي، أما في الجانب العملي، فقد نجحت منظومة باتريوت باعتراض 12 صاروخاً باليستياً فقط من أصل 20 أطلقها الحوثيون خلال عامين.
هذا ما يدفع الخليج، مثالاً لا حصراً، إلى البحث عن بدائل لأنظمة الدفاع الجوي الأمريكية، والدولة التي تبدأ في عالم اليوم بالبحث عن بدائل فيما يخص هذه المسألة لا بدَّ أن يقودها الطريق إلى موسكو، حيث منظومات الـ«إس400» ومثيلاتها. وهذا ما يبرر العزم الأمريكي على إيجاد نظائر فعالة لمنظومات الدفاع الجوي الروسية، إلا أنه عزم متأخر محكوم بالتسارع الجاري في هذه الصناعة التي قطع فيها الطرف الروسي تحديداً أشواطاً كبيرة.
الجانب الثاني: تطوير أسلحة فرط صوتية
يعود جذر المسألة إلى الإعلان الروسي في الأول من آذار العام 2018 عن منظومة «أفانغارد»، وهي أول أنظمة صواريخ فرط صوتية، والميزة الأساسية لمنظومة الصواريخ هذه، والتي تصل سرعتها إلى 27 ضعف سرعة الصوت (في اختبارات أخرى وصلت إلى 30)، هي أنه من المستحيل التنبؤ بمكان الصاروخ في اللحظة التالية في الوقت المناسب، أي لا يمكن لمضادات الصواريخ أن تلتقطه.
بعد خمسة أيام، وفي 6 آذار عام 2018 تحديداً، أعلن مايكل غريفين، وكيل وزارة الدفاع للبحوث والهندسة العسكرية، أن «أعلى أولوية تقنية» لدى الولايات المتحدة، باتت تتمثل في إنتاج الأسلحة الفرط صوتية، مضيفاً أن «الهدف هو تجاوز التطور الذي تقوم به الصين وروسيا في هذا المجال». وبدا غريفين حاسماً اتجاه من كان «يعانده» في أولوية هذا الموضوع أمريكياً، قائلاً: «أريد أن أجعلهم يشعرون بالقلق إزاء إمكانية اللحاق بنا مرة أخرى... أي أمريكي أو أي حليف أو شريك لنا لا يرى الموضوع بهذه الطريقة، أقول له: ليس لدي وقت لك».
عَكَس كلام غريفين توجُّهاً جدِّياً لدى واشنطن لردم هذه الهوة الساحقة، حيث خصص الكونغرس الأمريكي في موازنة العام 2017 مبلغ 85,5 مليون دولار للبحث والتطوير في الأسلحة الفرط صوتية. وفي موازنة العام 2018، ارتفع المبلغ إلى 108,6 مليون دولار، أي بزيادة قدرها 27%. لكن القفزة الكبيرة حدثت في موازنة العام 2019، حيث وصل الرقم إلى 256,7 مليون دولار، أي بزيادة 136%. ورغم هذا، كان لا يزال هذا الرقم منخفضاً وفقاً لتقديرات البنتاغون، وهذا ما دفع بالنقلة الهائلة في إعداد طلب ميزانية عام 2020، حيث وصل إجمالي الطلب للبحث والتطوير في الأسلحة الفرط صوتية إلى 2,6 مليار دولار، أي بحوالي عشرة أضعاف ما هو عليه في عام 2019 (المصدر: وزارة الدفاع الأمريكية).
إلا أن المشكلة الكبرى لدى واشنطن تتمثل في أنها لن تستطيع الاستثمار جدياً في وسائل دفاعية ضد الأسلحة الفرط صوتية، وسيكون لزاماً عليها أن تبدأ إنتاج هذه الأسلحة، وهي بذلك محكومة أيضاً بالأسبقية الروسية في هذا المجال من جهة، ومن جهة أخرى بالتسارع الهائل الذي تبديه الصين إزاء هذه المسألة. يقول البروفيسور في قسم هندسة الطيران في جامعة ميشيغان الأمريكية، إيان بويد، والذي عهدت إليه مهمة تطوير نماذج حسابية للمساعدة في تصميم الأسلحة الفرط صوتية بتمويل من الحكومة الأمريكية: «منذ عام 2005، نشرت الصين من الأبحاث في إطار الأسلحة الفرط صوتية أكثر مما فعلت دول العالم مجتمعة. لقد استثمر الصينيون في عدد من مرافق الاختبار المرتبط بهذه الأسلحة، وأجرت اختبارات لطائرات تفوق سرعة الصوت في الآونة الأخيرة أكثر بكثير من الاختبارات التي تقوم بها الولايات المتحدة. أما روسيا، فقد أنجزت خطوة متكاملة بإعلان بوتين عن منظومة أفانغارد».
الأسلحة الليزرية... جبهة أخرى
خلال الفترة الأخيرة، ليس لدى الإعلام الأمريكي ما يقوله في مواجهة الأسلحة الروسية الفرط صوتية سوى الحديث عن تطوير أنماط مختلفة من الأسلحة الدفاعية الليزرية التي تستطيع نظرياً أن تطلق حُزّماً ضوئية حارقة قادرة على تفتيت الصواريخ شديدة السرعة وهي تطير في الهواء. وقد بدأت الولايات المتحدة العمل على هذا النوع من الأسلحة في مطلع القرن الحالي، ووصلت إلى سلاح «Boeing Yal-1» لكن المعضلة التي واجهت هذا السلاح هو أنه ليس قادراً على مواجهة الصواريخ المتطورة من جهة، ومن جهة أخرى ليس قابلاً للتطوير بصيغته الحالية، لأن النموذج المطور ثقيل جداً لدرجة أن طائرة «Boeing 747» لا تستطيع حمله.
لكن جانباً آخرَ يجعل الأمريكي في مأزق حقيقي في هذه المسألة: في السابع عشر من الشهر الماضي، وخلال زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عدداً من المصانع العسكرية الروسية، صرّح بأن «أنواعاً جديدة من أسلحة الليزر قد طُوِّرت (طُوِّرت تفيد الماضي) في روسيا وستعزز بشكل كبير من القدرة العسكرية للبلاد»، قبل أن يُعلن أن «سلاح الليزر سيشكل القوة الرئيسة للجيش الروسي طيلة القرن الحادي والعشرين، وبعض أسلحة الليزر الجديدة قيد التطوير كانت حتى وقت قريب موجودة فقط في الخيال العلمي».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 919