انهيار برنامج المعارضة غير الوطنية... حديث أولي
سعد صائب سعد صائب

انهيار برنامج المعارضة غير الوطنية... حديث أولي

«يتصاعد الخلاف الروسي التركي ويبلغ مرحلة خطرة على خلفية ما يجري في إدلب»، «التقارب التركي الأمريكي يتعزز، ويبدو أنّ هنالك تفاهمات أصبحت شبه مُنجزة بما يخص الشمال الشرقي»، «الإيراني يرى نفسه معزولاً نتيجة التفاهمات الأمريكية الروسية، وترتفع لذلك حدة خلافاته مع الروسي»...

يمكن لمن يتابع وسائل الإعلام الخليجية خصوصاً، والغربية عموماً، أن يسمع بشكل متكرر قسماً من الطروحات أعلاه، وبشكل متكرر. رغم ذلك فإنّ كل وسيلة من هذه الوسائل، ولأنها تخدم سياسة نظام ما، فإن طروحاتها تتسم بشيء من التماسك الداخلي، الشكلي غالباً، ولكنَّ هنالك تماسكاً بالحد الأدنى بحيث لا يقال الشيء وعكسه في الوقت نفسه.
مثلاً، يمكن لمن يتابع قناة «العربية الحدث» السعودية، أن يرى بوضوح أن تناول الملف السوري يركز على مسألتين أساسيتين:
بطبيعة الحال تأتي في المقدمة، إيران و«دورها التخريبي».
بالدرجة الثانية مباشرة، يجري الهجوم على تركيا بكل الأشكال الممكنة، المباشرة منها وغير المباشرة، ويأتي ذلك في إطارين عامين (الأول: هو «التنافس الإقليمي» ليس على سورية فحسب، بل وعلى عدد كبير من الملفات العالقة في المنطقة. الثاني: وهو الأهم، انتماء الطرفين من حيث محصلة السلوك الواقعي إلى معسكرين متضادين بالمعنى الدولي؛ فالسعودية كانت ولا تزال جزءاً من المجموعة المصغرة (5+2)، في حين أن تركيا مكون من مكونات مجموعة أستانا ورابعها الصيني دون إعلان).
وضمن هذه الأولويات، يجري تصنيع خطاب محدد، واستقدام ضيوف ومحللين محددين، لبناء وصفة متناسقة قدر الإمكان، تدعم هذا التوجه. وبالأسلوب العام نفسه يمكن الاقتراب من فهم سلوك وخطاب الوسائل الإعلامية المختلفة المتابعة للشأن السوري.
ما لا يمكن فهمه في هذا الإطار، هو خطاب المتشددين من الأطراف السورية؛ وللإنصاف فإنّ درجة التخبط والتناقض تظهر بشكل أكثر وضوحاً في أوساط متشددي المعارضة، ليس لأنّ متشددي النظام لا يحملون القدر نفسه من التناقض، بل ببساطة لأنّ لدى هؤلاء الأخيرين آلية متطورة في تصديرها؛ إذ هنالك الخطاب الرسمي وإلى جانبه شبه الرسمي وغير الرسمي الذي يمر عبر صحف وقنوات إعلامية وشخصيات ومئات وآلاف المواقع الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي. في مقابل ذلك فإنّ التناقضات كلها يمكن قراءتها في خطبة عصماء واحدة من خطب متشددي المعارضة، بل وممن هم في «صفها الأول»!
يمكن مثلاً، أن تسمع مديحاً منقطع النظير لتركيا جنباً إلى جنب مع تحميلها مسؤولية ما يجري في إدلب، وبالتوازي مع هجوم حاد على مسار أستانا الذي تتمسك به تركيا حتى النهاية، لا في المسألة السورية فحسب، بل وبأبعاده الإقليمية والدولية.
يمكن أيضاً أن تسمع مديحاً للسعودية، بالتوازي مع الهجوم العنيف، وإنْ غير مباشر، على المسارات التي تفتحها باتجاه الشمال الشرقي، وعلى الخطوط الخلفية التي تفتحها هنا وهناك.
ويمكن في الدقيقة نفسها أن تسمع تعويلاً على المجموعة المصغرة لمواجهة أستانا، وتعويلاً على أستانا لمواجهة النظام، وإلخ... ونركز هنا على المواقف التي تُعبّر عنها المعارضة غير الوطنية اتجاه الدول والقوى، ولا نأتي على ذكر التوقعات السياسية التي تقدمها؛ فهذه باتت موضوعاً للتندر بين السوريين، من ذلك مثلاً: أنّ السيد نصر الحريري يريد حل الأزمة السورية عبر كسر إرادة روسيا وإيران وتركيعهما!

ما هو تفسير هذه التناقضات؟

يمكن أن يساعدنا في وضع تصور أقرب للحقيقة عن المسألة، أن نتذكر الطريقة التي جرت وفقها ترتيبات تمثيلات المعارضة غير الوطنية: ابتداء من «المجلس الوطني» ومروراً بـ«الائتلاف الوطني»، وهذا الأخير نفسه مرّ بمراحل متعددة، كان مركز ثقله الإقليمي في كل منها ينتقل من دولة إلى أخرى، هي على التتالي: «قطر- تركيا- الرياض»، وبالتوازي مع هذه التطورات تشكلت هيئة التفاوض الأولى ثم الثانية، واللتان تختلفان عن بعضهما بنقطتين فقط: الأولى: هي إعادة ترتيب الأوراق باتجاه زيادة وزن السعودية على حساب تركيا، والثانية: هي تحقيق أول خرق جدي بتحويل الاعتراف الرسمي الوارد في القرار 2254 بمنصة موسكو للمعارضة السورية، (والتي تأتي من خلفية وطنية تختلف كل الاختلاف عن القسم الأكبر ممن تصدروا المشهد المعارض عبر سنوات)، تحويل هذا الاعتراف إلى أمر واقع مفروض على غير الوطنيين.
ينبغي التأكيد هنا، أنّ ما نقوله عن تحول مركز ثقل المعارضة غير الوطنية بالمعنى الإقليمي من قطر إلى تركيا ثم إلى السعودية، يتضمن أمرين جوهريين لا يجوز إغفالهما:
الأول: هو أنّ انتقال مركز الثقل من دولة إقليمية إلى أخرى، لا يعني إطلاقاً انتهاء نفوذ بقية الدول الإقليمية، بل يعني بالضبط تراجع ذلك النفوذ واستمرار الصراع من أجل زيادته.
الثاني: وهو الأهم، أنّ المعارضة غير الوطنية، وأياً تكن التنقلات التي تجري على مركزها ضمن الإقليم، فإنها كانت ولا تزال مرتبطة صميمياً ومستندة كلياً على مركزها الدولي الأساسي: واشنطن. وهذا الاستناد الصميمي بالذات، هو ما يفسر إلى حد بعيد، الانتقالات الإقليمية نفسها، وخاصة الانتقال الأخير من تركيا باتجاه السعودية؛ فمع نشوء مسار أستانا، وبداية التحول التركي بعيداً عن المعسكر الأمريكي (وهي عملية تاريخية، لا نقول إنها أنجزت، ولا نقول إنها تمر دون أخذ ورد وصعوبات بالغة، ولكن الأكيد أنها قطعت شوطاً مهمّاً خلال السنوات الثلاث الماضية)، مع انطلاق هذا التحول، بات من الضروري نقل مركز ثقل المعارضة غير الوطنية بعيداً عن تركيا، وذلك لإبقائها حرة قدر الإمكان من ضغوطات مستقبلية متوقعة نتيجة التقارب الروسي التركي، تؤرض جنونها وطروحاتها المعادية للحل السياسي.
بالعودة إلى موضوع تناقضات المتشددين في المعارضة، فما نعتقده أنّ أسبابها متعددة، ولكن الأكثر أهمية ضمنها هو التالي:
أولاً: لمّا كان المركز الأساسي لكل المعارضات غير الوطنية، على ما نعتقد ونرى من خلال المواقف والسلوك، هو واشنطن بالذات، فإنّ من الطبيعي جداً أن يأتي سلوك التابع انعكاساً لسلوك المتبوع؛ فالولايات المتحدة التي باتت مدعاة للسخرية باحتفاظها بحق الرد أمام إيران، إلى جانب كم التخبط الهائل الذي تعيشه في كل سياساتها الخارجية والداخلية، لا شك أنها ستعدي أتباعها بأمراضها نفسها، بحيث يغدو التناقض صفتهم الأساسية. يعزز من هذا الأمر واقع أنّ هذا القسم من المعارضة ليس تابعاً فحسب، بل موظفاً يؤدي المهام الموكلة إليه أولاً بأول ودون اعتراض، وبما يتناسب مع التكتيك الأمريكي المتغير من يوم إلى آخر. يمكن التذكير هنا مثلاً بالموقف من اجتماع سوتشي في الشهر الأول من العام الماضي، حيث جرى رفضه بطريقة «مبدئية» و«صلبة»، وجرى الهجوم عليه بكل الأدوات الممكنة، وبعد ذلك بأيام جرى قبول نتائجه. كذلك الأمر مع أستانا نفسها قبل ذلك... والأمثلة تكاد لا تنتهي في هذا السياق.
ثانياً: التبعية الإقليمية هي الأخرى تلعب دورها وتعمّق من هشاشة وتناقض مواقف التابعين، وتتعزز هذه التبعية بشكل أكبر نتيجة هشاشة إن لم نقل انعدام العلاقة مع السوريين، وانعدام الرؤية المستقبلية بالمعنى السياسي، والاكتفاء بطرح شعارات ومواقف سياسية أقرب إلى الجنون منها إلى أي شيء آخر.
الجانب المشرق في المسألة برمتها، هو أنّ حجم الضعف والتراجع الأمريكي، وانعكاساته على المتشددين في الطرفين السوريين، أي: الفاسدين الكبار ضمن النظام، ونظرائهم من المتاجرين السياسيين في القسم غير الوطني من المعارضة، يفتح الباب على تقارب أكبر بين الوطنيين السوريين من كل الأطراف، ويفتح الباب على إعادة ترتيب اللوحة بأكملها بما يتناسب مع التنفيذ الفعلي والكامل للقرار 2254.

معلومات إضافية

العدد رقم:
919
آخر تعديل على الإثنين, 24 حزيران/يونيو 2019 15:26