شيخوخة النظام وطفولة الحركة

اتسمت الأزمة السورية على مدى سنة من عمرها حتى الآن بصراع النظام السياسي القديم مع الحركة الشعبية الجديدة، بين نظام مستمر بنفس العقلية القديمة التي مضى زمانها، في تعامله مع الشعب وكأنه قطعات عسكرية تتلقى الأوامر من قيادتها، وبين حركة شعبية وليدة محقة في مطالبها، ولكنها تفتقر إلى الخبرة السياسية ما جعلها عرضة لأخطاء ومطبات شتى.

ربما يعود هذا إلى أنّ النظام السياسي في سورية أصبح مع الأيام مندمجاً في جهاز الدولة، واكتسب بالتالي خاصية مشتقة من الصفات الملازمة لجهاز الدولة، والذي إضافة لكونه جهاز إدارة، فهو جهاز قمع وقابل للفساد والإفساد.

وبالنتيجة عانت السياسة من التيبس والتحجر، وخضعت لجهاز الدولة بدل أن تراقبه، وأصيبت بعجز عن القيام بإصلاحات في بنية هذا الجهاز تواكب المطالب الحقيقية لأغلبية الشعب، وخاصة في الجوانب الاقتصادية-الاجتماعية، بل حدث «إصلاح» بالاتجاه المعاكس، مسايراً موضة الليبرالية الجديدة، الذي لا يخدم إلا قوى البرجوازية والفساد. ولذلك كان من الطبيعي والمتوقع أن هذا الكمّ غير الملبّى من الحاجات، وفي ظل غياب الحريات السياسية للتعبير عنه، أن يصل حد الانفجار للتعبير عنه تحركاً شعبياً احتجاجياً بالتعبير وبالتظاهر، والذي كانت ردة فعل النظام إزاءها محاولة كسر الحركة ومحاربتها، ولكن الحركة موضوعية وتتلقى زخمها وقوتها وضمانة استمراريتها اللاحقة من فرق الكمون بين المستوى العالي لحاجاتها والمستوى المتدني لتلبية هذه الحاجات.

لكي تكون الصورة واضحة لا بد من أن نضع في الحسبان أنّ القسم الأعظم من الكتلة السياسية التي اندمجت في جهاز الدولة والتصقت بها سمات هذا الجهاز نفسه، بسيئاته وحسناته، لم تعد بهذا المعنى «حركة» سياسية بل كتلة عاطلة وخاملة سياسياً. لذلك فإنّ سلوك هذه الكتلة التي تسمى «النظام» في قمع وإقصاء وتخوين الحركة الشعبية الوليدة هو في جزء كبير منه معبر عن مصالح الفساد الكبير داخل جهاز الدولة، والغارق في الكثير من الدسم الذي يخاف أن يخسره، إما عبر تغيير وطني حقيقي يصنعه الشعب، وهذا ما يفسّر قمعه في الداخل، أو عبر تغيير لاوطني يصنعه العدو الخارجي مع عملائه، وهذا ما يفسر ميل البعض نحو التهادن مع العدو الخارجي وقابليته واستعداده لتقديم التنازلات في قضية الصراع مع الصهيونية والإمبريالية، وقضايا الأمن القومي الاقتصادي-الاجتماعي.

مثلما أنّ السلوك الذي يعمم الإقصاء والتخوين ويدعو إلى التدمير الشامل لجهاز الدولة بقضه وقضيضه تحت شعار «إسقاط النظام»، وخلف صراخه وعويله ودموع تماسيحه المتباكية نفاقاً على دماء الشهداء، هو تعبير عن مصالح شتى الفئات المستغِلة ولكن ذات الحصص القليلة أو المعدومة في النهب الحالي، بحيث لا شيء تخسره من تدمير الدولة، ومن التمرير «الإنساني» للموت الأطلسي، بل على العكس، فبعد حفلات «شواء» الشعب السوري، ستدخل على جثثه برؤوس أموالها كمستثمرين جدد ووكلاء لشركات الاستعمار في «إعادة الإعمار» وكدمى تابعة له، ينصّبها على الدويلات التي ستقسم إليها البلاد.

مطبّ التسلح

لا شك أنّ أخطاء كثيرة حدثت ومازالت تحدث في استخدام سلاح الدولة نتيجة استخدام سلاح قوى الأمن الداخلي بشكل خاص كأداة في خدمة سطوة الفساد الكبير، والتي تكبّل جميع مؤسسات الدولة الأخرى، بما فيها مؤسسة الجيش العربي السوري، والتي طالما كانت مؤسسة وطنية تاريخياً، الأمر الذي ربما ساهم في عرقلة تحالف هذه المؤسسة مع الحركة الشعبية السلمية وأعاقها عن تقديم الحماية اللازمة لها من عنف الميليشيات الطائفية المسلحة (سواء كانت «شبيحة نظام» أم «جيش سوري حر»)، والمتشكلة والمدعومة من الفاسدين الكبار من كل حدب وصوب، والتي وجهت طعنات حرابها إلى خاصرة كل من الجيش والحركة الشعبية، مستغلة ردات فعل جزء ممن وقع عليهم الظلم والقمع في التظاهرات السلمية. كما ضمت هذه الميليشيات عناصر متطرفة أخذت ترتكب جرائم ضد المدنيين والعسكريين، مما استدعى الجيش إلى التدخل. ولكن تنفيذ ذلك خارج حلّ سياسي شاملة للأزمة، يركز على كسب البيئة الاجتماعية الحاضنة للمسلحين، جعل الحل العسكري والأمني المنفرد قليل أو عديم الجدوى، بل وضاراً في كثير من الأحوال، ومنفّراً لتلك البيئات الاجتماعية.

تلكؤ الحل السياسي وارتفاع التكلفة

بالحديث عن حصة النظام في المسؤولية عن تعقيد الأزمة وارتفاع تكلفتها، يجب أن نتذكر الفرص الثمينة لوضع سورية على طريق الحل الآمن للأزمة، والتي ساهم هو كنظام مع غيره أيضاً من الأطراف المتشنجة في المعارضة والحركة الشعبية في تضييعها، رغم أنّ أجزاء هامة من المعارضة الوطنية والحركة الشعبية ناضلت من أجل تأمينها وعدم تضييعها. فمن اللقاء التشاوري التمهيدي لبدء الحوار الوطني (تموز 2011)، والذي ظلّت معظم بنوده الثمانية عشرة حتى الآن حبراً على ورق، مروراً بالدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، والتي أطلقتها اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين (حزب الإرادة الشعبية) و الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في شهر كانون الأول 2011، قبل أن يذكرها النظام مجدداً فيما بعد، ثمّ ينساها حتى الآن، رغم أهميتها القصوى والمستعجلة في اتخاذ الإجراءات الإسعافية السريعة المطلوبة لوقف نزيف الدم السوري، وإعادة السلم الأهلي وبدء الإصلاحات التنفيذية، التي دونها لن يتم تفعيل الدستور الجديد، والذي رغم نواقصه يعتبر مكسباً حققته الحركة الشعبية السورية بتضحياتها ونضالها.

 

أخيراً ولمصلحة الحل الآمن للأزمة لما فيه خير الشعب وجميع الشرفاء في الوطن أينما كانوا، بما فيهم الشرفاء داخل النظام، يجب على الجميع فهم الحقيقة التالية: الحركة الشعبية في سورية ولدت مع شقيقات لها في عالم النظام الرأسمالي الشائخ والمترنح على أعتاب القرن الجديد، ورغم أنها تحبو متلمسة طريقها الصعب وهي في السنة الأولى من عمرها، ورغم أنها قد تتعثر وتقع أو يوقع بها في كثير من المطبات، إلا أنها ستستمر بالنضج وتبزغ أسنانها السياسية ولو بعد حين، وعندئذٍ لن ترحم أعدائها ومستغليها، لا في الداخل ولا في الخارج، ولن تسمح بأن تكون سورية المستقبل إلا حرة أبية مستقلة، معطاءة لشعبها، ومقاومة شرسة للمشروع الإمبريالي-الصهيوني- الرجعي العربي، وأحد الأسافين القوية في نعشه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
544