عقلية المعارضة و واقع الحركة الشعبية

تمارس المعارضة في بلدان الغرب الرأسمالي دورا وظيفيا مؤسسا على مفهوم ( الديمقراطية ) بناء على ترجمتها بأنها « تداول للسلطة «، والسلطة هي أداة الحكم للفئات المهيمنة التي يسمح لها النظام دونا عن غيرها التربع على العرش، ( النظام هو جملة  السياسات ومؤسسات السلطة التي تخدم الطبقة الحاكمة المتمتعة بالثروة الاجتماعية ).

تتبدى الأنظمة عند الغرب كمفهموم منجز غير قابل للنقاش ويشتق من ذلك أن الصراع الأساسي الذي يجب أن تخوضه الفئات المتناحرة هو الوصول إلى السلطة عبر التداول، أي الخضوع للآليات المنجزة في ظل النظام القائم والمستقرة نسبيا دون السماح بأي مراجعة حول مشروعية بقاء هذه الأنظمة أم لا..

بهذا الشكل يتوضح الدور الوظيفي للمعارضة في تلك البلدان، فهو تدوير للسلطة مع الآخرين، وبهذا يستمر النظام. ويشتق من ذلك أن دور الشعوب هوفقط منح التفويض لهذه القوى السياسية أو تلك، بكل بساطة تأمين شرعية السلطة بغض النظرعن مشروعية النظام ...

 تطلق المعارضة السورية اليوم خطابها السياسي بناء على هذه العقلية، أي أنها ترى وظيفتها كمعارضة في منظومة منجزة لكن فيها مشكلة ( التخلف ) فهي لاتؤمن بالتداول ( هكذا تقرأ المعارضة الموجودة في الإعلام بالإضافة للغرب النظام السوري).                                                                     تمثل المعارضة موضوعيا جيلا نخبويا ينتمي إلى نفس النظام المنجز، أي النظام التي تجري عملية تغييره الآن، فهم خارج السلطة ولكنهم ضمن النظام، ويتضح في الحالة السورية أن الثروة الاجتماعية انزاحت خلال العقدين الماضيين - وهذه تحولات جذرية ببنية النظام الحالي- لصالح البرجوزاية التابعة، ولصالح قوى الفساد التي كونت برجوازية على اكتاف جهاز الدولة والمجتمع، وكلاهما يخضعان لواقع الرأسمالية المأزومة في الغرب، ولطالما بقي خطاب هذه المعارضة بعيدا عن مشكلة الثروة وتوزيعها، وهذا يدلل على ابتعادها الموضوعي عن هذا الإنزياح بل واقترابها أكثر إلى عقلية السلطة، وصولا إلى أزمة كليهما المنبثقة عن الأزمة الرأسمالية العالمية.

ترى المعارضة في الحركة الشعبية أداة لمقارعة النظام القائم الذي لايؤمن بتداول السلطة ( إن عيب السلطة الأساسي بناء على هذا التصور هو توقيف التداول، بينما تتكون كل الأنظمة على فكرة احتكار التداول من قبل بعض القوى السياسية !! أحزاب بريطانيا وأمريكا نموذجا)، وبالتالي لابد من الزامه بهذه القاعدة حتى ولو بالإكراه «القوة العسكرية » والمقصود هو السعي لهيمنة المعارضة على المؤسسات أو استبدال هذه المؤسسات فهي التي تعطي القوة ( الجيش مثلا مطلوب إما استبداله بقوة مسلحة مدعومة من المعارضة أو تدميره طالما أن المعارضة تستمد القوة بنفس عقلية النظام من خلال المؤسسات وليس من خلال الشعب)، وهنا تتجلى العقلية الرجعية للمعارضة التي تقرأ الحركة الشعبية كردة فعل طبيعية على غياب التداول في نظام قائم ولكنه مأزوم  بفكرة الإقصاء بشكل أساسي فقط ، وبذلك حددت المعارضة وظيفة الحركة الشعبية من منشأ خاطئ .

إن ماتسعى إليه المعارضة اليوم لا أكثر من تكريس الحركة الشعبية كأداة بوجه السلطة، بينما يشي الواقع بأن الحركة الشعبية  تشكيل جديد تتميز باستقلالها النسبي عن كل المنظومة السابقة بشقيها خارج/ داخل السلطة، وإن كانت بكل تأكيد متأثرة بواقع الإقصاء وغياب الديمقراطية فهذا تجلي شكلي لواقع قديم جديد، إلا أن الجديد اليوم هو درجة إقصائها عن التمتع بالثروة والتي تمنحها الوجود من عدمه. وفي هذا السياق لاترى المعارضة بدا من تعديل ميزان القوى المستقر لصالح السلطة بقوى من الخارج، كيف لا وهي تنطلق من الحركة كأداة لتحقيق تداول السلطة في النظام الذي يراد استقراره على نفس طريقة توزيع الثروة.      إن الضحالة الفكرية عند المعارضة تتوضح بطلبها للدعم من أنظمة الخارج التي تعاني حالة الضعف ذاتها الذي يعانيها النظام القائم، أي طلب استخدام لأدوات القمع التي أنجزها النظام الرأسمالي على المستوى الدولي ( حلف الناتو أو أي آلة عسكرية أخرى).

إن اصرار المعارضة على فكرة التداول كأداة للتغيير لم يترافق مع تحديد القوى الاجتماعية التي يتوجب أن توضع آلية التداول في يدها، وإن تعطيل النظام لفكرة التداول تاريخيا أفقد النظام حيوية ما، لكنه لن يؤمن إلا انحيازا لصالح الفئات المهيمنة فيما لو وجدت هذه الآلية وبالتالي استمرار النظام، أما رفع « شعار اسقاط النظام « من قبل هذه المعارضة فلايعني مطلقا توسيع فكرة التداول للوصول إلى عمقها الاجتماعي المطلوب، بمقدار مايعني كسرا جبريا لعقلية الإقصاء التي عطلت فكرة التداول، بمعنى أدق الإطاحة برموز السلطة  التي عطلت التداول والسماح بتداولها لانتعاش النظام المفترض استقراره.

 إن ربط فكرة التداول بالحوامل الإجتماعية للفئات المتضررة من غياب الثروة قد يعطي ملامح ثورية للحراك الشعبي، وهذا مرهون بالتطورات التي قد تنشأ على مسار الاحتجاجات والقوى السياسية المتولدة عن هذا النشاط العالي للجماهير، وهذا ما تبتعد عنه المعارضة حتى اللحظة وتحاول في كثير من الأحيان تعطيله بسلوكها الأناني.

 

من الواضح حتى اللحظة أن الحراك الشعبي المتولد بكامل زخمه وقع و سيقع في العديد من المطبات، فهو فيما يختزن من آلام، سينضح بكل ماهو متعلق بالعقليات القديمة، إلا أن هذا لن يمنعه من انتاج الجديد، لكن مانستطيع تأكيده حتى اللحظة هو أن الحركة الشعبية خرجت لتداول نظام جديد خارج تشكيلة النظام السابق بما يحتويه من قوى داخل/خارج السلطة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
544