المخرج الآمن والنموذج اللاحق..
تسود المجتمع السوري بكل أطيافه حالة من القلق العارم، فلا أحد يجرؤ على صياغة أحلام للغد، وكثر راحوا يرثون أحلامهم القديمة. تفاقمت حالة القلق هذه لدى الأوساط الشعبية -المعارضة منها والموالية- نتيجة الطروحات المتطرفة لمعارضة «اللاحل» من جهة، وتعنت النظام وسطحية إجراءاته «الإصلاحية» التي لم ترق إلى حجم الأزمة العميقة التي تجتاح البلاد.
اليوم، بعد مرور عام ونيف على انطلاقة الحركة الشعبية في سورية، يدّعي الجميع البحث عن حل آمن يخرج البلاد من الحالة التي آلت إليها.. ونسمع في هذا الإطار طروحات متعددة. ولكن قبل تناول هذه الطروحات يجب الوقوف عند فكرة العلاقة بين طريقة الخروج من الأزمة ونموذج سورية ما بعد الأزمة.. تحمل هذه الفكرة أهمية حاسمة، وما يدعونا إلى الوقوف عندها هو أن كلا الطرفين المتشددين في النظام والمعارضة يحاولان منع أي كلام عن تفاصيل وبرنامج المرحلة القادمة اللهم إلا الشعارات العامة والفضفاضة كالديمقراطية والمدنية والحرية والمساواة..الخ، الأمر الذي يشير إلى أن وراء الأكمة ما وراءها.. وإلى أن من يخفي نموذجه اللاحق ويريد «التركيز» على سبل الخروج من الأزمة الراهنة، فهو إنما يخط المخرج الذي يصب في بحره..
إن علاقة ديالكتيكية تربط طريقة الخروج من الأزمة بالنموذج اللاحق لسورية، حيث ستحدد طريقة الخروج من الأزمة اتجاه وسرعة تكوين النموذج اللاحق.. الخروج الآمن والحقيقي هو الذي يسمح بالسير بسورية إلى الأمام.. فما هي المخارج المطروحة؟
يختلف المخرج الآمن لابن الشارع السوري الذي يعلم أن مصيره مرتبط بهذي الأرض، عن الحل من وجهة نظر فئات كثيرة تسلقت على الحراك الشعبي منذ انطلاقته، كان أولها المجلس اللاوطني بتركيبة أساسية من الإخوان المسلمين إلى جانب فئات من المثقفين، واليساريين «التائبين»، و«الناشطين السياسيين»، والحقوقيين، والمتدربين على «الأساليب المدنية للمعارضة في أوروبا»، والمرتزقين من كل ظهور إعلامي على قناة فضائية، وغيرهم الكثير ممن أمضى العام الماضي سائحاً من بلد إلى آخر، بحجة دعم الثورة.
المخرج «الآمن» الوحيد من وجهة نظر مجلس اسطنبول ومن والاه هو التفاوض على تسليمهم السلطة، بعد تنحي رئيس الجمهورية. يطرحون هذا الحل غير آخذين بالاعتبار ميزان القوى الواقعي والموضوعي، لا الداخلي –الذي لا يعولون عليه أصلاً – ولا الخارجي الذي وعدهم بتدخل عسكري ودفعهم باتجاهه، ثم وجد في المحافظة على الاستعصاء وسيلة أنجع لخوض المعركة في وقت لم تحسم فيه أمور الصراع على المستوى الدولي، فالسوريون الشهداء في نظرهم أرقام تبرر مخططاتهم التي تحمل عناوين «كالحرية» يديرونها حسب غاياتهم. ولا مانع لدى هؤلاء من مسرحية حوارية ينتج عنها تغيير شكلي في هرم السلطة مع الإبقاء على نظام توزيع الثروة السابق، مع إعادة محاصصة بين الناهبين القدماء والجدد الوافدين، ووضع عملاء للمشروع الامبريالي الصهيوني في أماكن حساسة في الدولة، مع دور ضعيف للدولة في اقتصاد ريعي يحرم سورية من استقلال قرارها الوطني إلى الأبد، وفوق ذلك يعيد إنتاج الأزمة ولكن بشكل أكثر حدة وأكبر تكلفة..
يطرح النظام مخرجاً آخر من الأزمة يسميه القضاء على المؤامرة، ويتم الخروج حين يصبح من الممكن القول إن المؤامرة قد «خلصت».. ويوافق على الحوار دون تقديم أي برنامج حقيقي للسوريين الذين ينتظرون تغييراً حقيقياً وينتظرون حلولاً للمشاكل المتراكمة على جميع أصعدة حياتهم..
إن الحلول الترقيعية التي تعمل على تضميد الجرح في حين يكتسح الجسد نزيف داخلي شديد، ستعيد إنتاج الأزمة باستمرار ولن تسمح لجسد المجتمع السوري بالتعافي أبداً.. من هنا فإن المخرج الآمن الوحيد هو ذاك الذي يؤسس لاصطفاف وطني واسع يكسر ثنائية معارض موال الحالية ويعيد تشكيلها وفق (وطني – غير وطني) يصطف في الخندق الأول غالبية الشعب السوري وفي الجانب الآخر يصطف الفاسدون الكبار داخل النظام وخارجه.. المخرج الآمن وحيد ومرتبط ببرنامج وطني اقتصادي- اجتماعي ديمقراطي متكامل..