لماذا على الأحزاب السياسية وضع نماذجها الاقتصادية؟

العملية الاقتصادية كما هو معروف هي السبب الرئيس في الأزمات الاجتماعية من جهة، وتشكل نقطة الانطلاق التي تحدد سير عملية التطور الاقتصادية الاجتماعية، أو التنموية عموماً، بالتالي فإن القرار الاقتصادي، قد يشكل رافعة تهيئ لنمو اقتصادي حقيقي ومستمر، وما يعنيه هذا من تنمية وتوزيع عادل، ويؤسس في هذه الحالة للمصلحة العامة أي الوطن والمواطن. وبالمقابل قد يكون القرار الاقتصادي، رافعة أيضاً لكن لنمو من نوع خاص، هو نمو الأرباح وانزياحها نحو المصالح الخاصة للفاسدين وأصحاب الربح.

فالبرنامج الاقتصادي للأحزاب، ليس وجهة نظر تقنية، قابلة للتجريب، بل هو جوهر موقف الجهة السياسية أو الحزبية من المصلحة الوطنية العامة، فهي إما تبني لنموذج وطني قابل للاستمرار، أو تعيد صياغة النموذج السابق -القائم على نمو ضئيل، نهب كبير- بناهبين جدد.
وفي ظل هذه الاحتمالات لابد من ترسيخ أحجار الزاوية نحو النموذج الاقتصادي الوطني، ويكون هذا الترسيخ بتثبيت بعض المفاهيم، وإخراج بعضها الآخر من حالة التعميم المضللة، لتطوير «الحساس الشعبي الاقتصادي»، الذي يستطيع أن يكتشف عمق الخطاب السياسي في الاقتصاد، ويضع كل الأحزاب والاتجاهات السياسية أمام استحقاق طرح برامجها وخططها وعدم اللجوء نحو العموميات.
مفاهيم في النموذج الجديد:
 النمو بجوهره كتفاعل بين العمل البشري والطبيعة، لخلق ثروة هو منطلقنا، وتاريخ تطور الإنتاج البشري هو تطور هذا التفاعل، ماالذي قد نضيفه في هذا الموضع؟
 
المزايا النسبية والمزايا المطلقة
الموارد المتراكمة والموظفة في خلق النمو التي لها شروط في الظرف الحالي: محليتها، والعملية السياسية لتوفيرها من الثروات المنهوبة سابقاً (أي أموال الفساد). تستتبع لاحقاً بوجوب البحث في فاعلية هذه الموارد أي مقدار النمو، فعند توظيف موارد محلية بمقدار 100 الفارق كبير بين خلق ثروة منها بنسبة 5%، وبين خلق ثروة بنسبة 300% ، وهنا يكمن الفرق في تطوير التفاعل بين العمل البشري والمادة الطبيعية، والذي يقتضي البحث في مادة الإنتاج الاولى، فأي المواد الطبيعية نختار؟

مزايا نسبية:
 لبعض المواد مزايا نسبية أي تتمتع بخواص تجعلها ذات حالة تنافسية أعلى، إما نتيجة توافرها أو نوعيتها، وتتركز المزايا النسبية في المواد الخام، والنموذج السوري السابق قام ولا زال على المزايا النسبية للبيئة السورية، من النفط، إلى القمح، القطن وغيرها..بينما أثبتت تجربتنا في هذا المجال، أن مقدار النمو المحقق من التوظيف في المزايا النسبية لم يكن عالياً، وهو ما يتعلق بطريقة الإنتاج من جهة، وبالشرط الاقتصادي الدولي العام المتعلق باحتكار المواد الخام، فالميزة النسبية مواردها تأتي من مطرحين:
- عملية البيع المباشر في السوق الدولية، وفيها يتنافس على سبيل المثال، القمح السوري مع القمح النوعي أيضاً من دول أخرى، خاضعاً لشروط  أبرزها وأقساها هو عدم القدرة على التسعير، فوجود الميزة النسبية ذاتها لدى الآخرين، يقتضي الخضوع للسعر الدولي، والذي يتحدد – وتحديداً في المواد الخام- وفقاً لأسعار الاحتكار العالمية، التي تشكل بورصة السلع الغذائية والمنتجات، أحد آليات تحديده فيختلف بين البيع والشراء، وفقاً للعلاقة بين شركات عالمية هي المشتري الرئيسي تشتري بسعر أدنى، لتنتج وتصدر بسعر احتكاري أعلى..
- عملية تصنيع المواد الخام ذات الميزة النسبية، تختلف نتائج هذه العملية باختلاف طرق الإنتاج، ولكن في ظل واقع التكاليف العالية، والتكنولوجيا المستوردة، والحاجة إلى إنتاج ضخم، وخضوع منتجات الميزات النسبية، كالملبوسات القطنية في سورية كمثال، إلى أسعار دولية أيضاً، كل هذا يقلل من القيمة المضافة في هذه العملية، ويخفض من نقاطها كأولوية لتوليد النمو، وزيادة فعالية الموارد، فهي تأتي لاحقاً عندما يؤمن النمو العالي مستوى أعلى من التكنولوجيا، وتكاليفاً أقل لإنتاجها، وبالتالي تزداد هنا ميزتها النسبية.

المزايا المطلقة:
ومن هنا البحث عن بديل انطلاقاً من المادة الطبيعية في العملية الإنتاجية وهو البحث في ميزاتنا المطلقة، وهي المواد ذات الوجود الجغرافي المحلي الحصري، التي تتواجد في البيئة السورية بشكل خاص ويحقق استكشافها وتنويع منتجاتها، قيماً مضافة عالية جداً، نتيجة تجاوزها لعوائق وإشكاليات المزايا النسبية. فبداية إنتاجها الحصري والمحلي، يؤمن تجاوز السعر الاحتكاري الدولي، أو تحقيق سعرنا الاحتكاري لها، إضافة إلى ذلك فإن كونها مواد خام غير مكتشفة يتيح تنويعاً واسعاً في سلسلة العمليات الإنتاجية عليها.
لماذا لم تستثمر المزايا المطلقة بعد؟ عملية استثمار المزايا المطلقة، عملية تحتاج بداية القرار الاقتصادي الوطني المذكور سابقاً، بالتالي منهجاً يتيح  إنتاج قرار مركزي، بعملية ذات فوائد مطلقة بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنها عملية ذات ريعية عالية إلا انها قد تكون طويلة الأمد، ولا تتناسب مع هيمنة القرار الاقتصادي لأصحاب الربح في السوق، أي ليست سريعة الربح، أو سهلة النهب، وهو ما يوضح عدم السير بها، على الرغم من أن المزايا المطلقة في سورية كثيرة نوعاً وتوزعاً..
الوردة الشامية، النباتات البرية، غنم العواس، حجر البازلت، مواد تعد من المزايا المطلقة غير المستثمرة، وبعمليات بحث جدية يمكن استكشاف الكثير غيرها، أو استكشاف لأقصى الاستفادة الممكنة من كل منها، تتطلب هذه العملية إدخال العلم والبحث كعامل من عوامل الإنتاج، ومحتوى أساسي في العملية الإنتاجية.
إقامة مراكز محلية للبحث في ميزات كل منطقة جغرافية، تبحث في الجدوى الاقتصادية لكل منها، يليها نواتات إنتاجية محلية أيضاً لهذه المواد، يؤمن لها من مراكز القرار الاقتصادي الدعم المادي والمعرفي من الموارد إلى الكوادر العلمية المطلوبة، وتشغيل السكان المحليين أصحاب الخبرة والاحتكاك مع المواد المستكشفة، عمليات إنتاجية بسيطة ومتتالية، وتنتج على شكل مشروعات متوسطة وصغيرة، تضمن الدولة شراء منتجاتها وتوزيعها، أو تسويقها في السوق الدولية.
يمكن تطويرها لإنتاج مجمعات زراعية صناعية، تتم فيها عمليات البحث المحلي، والإنتاج الزراعي، وحلقات الإنتاج الصناعية، قائمة على تشغيل السكان المحليين، ومخططة الموارد ومضمونة البيع والتوزيع..
 
غنم العواس كمثال
غنم العواس من مواشي الجزيرة والبادية السورية، نوع يتحمل الظروف الجوية القاسية، ويستجيب للتحسين الوراثي، يورد العواس حالياً إلى دول الخليج بشكل أساسي، ولاتجرى عليه أي عملية مسبقة، حتى بلا عملية الذبح، التعليب، ويورّد أغلبه عن طريق التهريب وهي عملية فساد ونهب واضحة المعالم..للمفارقة، أجريت دراسة على هذه الماشية والجدوى الاقتصادية لها تبين أن عمليات تنظيم رعيها واستيلادها، استثمار منتجاتها، تعليب اللحوم، دبغ الأوبار، الاستفادة من أمعائها كخيوط طبية، وغيرها.. عمليات بمستوى متدن من التكنولوجيا، وبموارد محلية بسيطة، تحقق قيمة مضافة بمقدار 3000%، بينما حالياً تنهب هذه الثروة الوطنية بشكل فاضح.
الأعشاب البرية المتنوعة، كمثال آخر، تعليبها وتوزيعها، تطوير منتجات طبية علاجية منها، قد تحقق قيمة مضافة بمقدار 12300% أي 123 ضعف الموارد المستثمرة.
توضح الأمثلة السابقة، مقدار النمو الذي يمكن خلقه من الموارد المحلية، باتباع منهجية تزيد من فعالية المورد، وباعتماد المزايا المطلقة كخطة عمل، وورشة إنتاج تشكل رافعة للبيئات المحلية اقتصادياً واجتماعياً، ولكنها تتطلب تغيير العقلية المتحكمة بالقرار الاقتصادي، القائمة بأحسن الأحوال على التجريب، وبأسوأ الأحوال على الهدر الممنهج والهدم الاقتصادي، وما يتضمنه بين هذا وذاك من مصالح الناهبين الذين يشكل ضعف الوعي السياسي الاقتصادي، البيئة الأكثر مناسبة لنهبهم، ويساعدهم بذلك البرامج السياسية المعومة المصطلحات، والمفرغة، المعيقة للوعي الشعبي بربط مصلحته، بالخط الاقتصادي الوطني..