حاوره: إباء منذر  حاوره: إباء منذر 

د. قدري جميل لـ«بلدنا»: كان معروفاً أن السياسات الاقتصادية التي اتبعت في السنوات الماضية ستكون نتائجها كارثية!!

أجرت جريدة بلدنا لقاء مع الرفيق د. قدري جميل يوم الثلاثاء 06/09/2011، وحاورته في شؤون الأزمة التي تمر بها البلاد منذ أشهر.. ونظراً لأهمية الحوار نعيد نشره في قاسيون..

«اعتبر أنّ جذور الأزمة تكمن في السياسات الاقتصادية للحكومة الراحلة.. قارعو أجراس الإنذار في السنوات الثماني الماضية كانوا كثيرين، ولم تجد الحكومة السابقة خياراً أمامها (بقصد أو من دونه) إلا استعمال الطين والعجين لصمّ آذانها عن سماع ما لا تريده من قراءات الواقع، وما ستؤول إليه الأمور نتيجة تراكم المزيد من الأخطاء، لنصل اليوم إلى مرحلة انفجارٍ جذورها مقسّمة بين الاقتصادي والسياسي، فالعيوب تكشّفت والإرادة السياسية قالت كلمتها.

لدى الشارع مطالب مشروعة لا بدّ من الاستجابة لها وبحثها، ومناقشتها عبر حوارٍ عميق ينقلنا إلى برّ السلامة، والمبدأ الأول من مبادئ الحوار هو وضع اليد على الجرح تماماً دون مواربة، أو تجاهل، لتوصيف المشكلة ورسم الخطوط العريضة لسورية جديدة تليق بنا جميعاً، والنقطة التي يلتفّ حولها السوريون اليوم، مهما اختلفت أطيافهم، ضرورة الإصلاح، وهذا لن يتحقق دون تضافر جهود كلّ أبناء المجتمع حتى لو اختلفت وجهات نظرهم.. فالسوريون يدركون أنّهم قادرون على حلّ مشكلاتهم تحت سقف الوطن، وهذا يتطلّب نقاش وجهات نظر من اختلفوا في السابق مع ما كان قائماً، ولديهم رؤيتهم وأوراق عملهم للإصلاح، ولعلّ أبرزهم على الساحة الاقتصادية والسياسية أمين وحدة الشيوعيين السوريين، الدكتور قدري جميل، الذي رسم الخطوط العريضة للمشكلة، وأساليب حلّها عبر صفحات جريدة «بلدنا». 

•  د. قدري جميل أمين اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريون، ما هي جذور الأزمة في رأيك؟

إنّ الوضع الاقتصادي مأزوم، ليس بسبب الأحداث الأخيرة فقط، فجذور الموضوع تكمن في السياسات الاقتصادية للحكومة الراحلة، ومجمل الأسباب السياسية والاقتصادية أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، لكنّ الأساس يكمن في تحديد حجم المشكلة وهو كبير، لأنه تعبير عن استحقاق تأخر، فمستوى الحريّات والتعبير الناقص يؤدي إلى غياب نظام الاستشعار المبكّر، وغياب المصارحة أدى إلى انفجارٍ مفاجئ، فالخلخلة الاقتصادية التي حدثت نتيجة اختراق معيّن قد تؤدي إلى استيلاء سياسي، وهذا هو مفهوم أمريكا في سياساتها.. ولذلك فإنّ السياسات التي اتّبعت بناءً على توصيات صندوق النقد الدولي كان المقصود منها الاختراق من أجل الإخضاع السياسي، وطبّقت رغم وضوح نتيجتها؛ أنّها ستؤدي إلى كارثة. 

• بما أنّ أحد أهم أسباب المشكلة اقتصادي وسياسي، كيف يمكن أن نشخّص الواقع السوري خلال السنوات الماضية؟

السياسات الاقتصادية في السنوات الماضية أدّت فعلياً إلى تقليص النمو وزيادة مساحة الفقر والبطالة، فهي تحمل منطقاً خاطئاً، وكان معروفاً، بالنسبة للمتابع والمهتم، أن نتائجها ستكون كارثية، نحن، في اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، كنا نرى منذ البداية أنّ هذه السياسات ستُحدث خللاً اقتصادياً بالذات في موضوع توزيع الثروة، الأمر الذي سيؤدي إلى توتر اجتماعي سيوصلنا إلى عدم استقرار سياسي، عندما تحيط به ظروف إقليمية وداخلية وهذا ما حدث، وإذا أضفنا إلى ذلك البنية السياسية التي تمثلت في مستوى الحريات السياسية المنخفض؛ أي مستوى التعبير عن الرأي والهموم والمصالح المنخفض، أدى ذلك إلى مفارقة كبيرة؛ وهي أن السياسات الاقتصادية ضربت المستويات الاجتماعية في كلّ المجالات وتلاقى معها عدم تعبير الناس عمّا كان يحدث، وبالتالي وصلنا إلى مرحلة الانفجار الذي كنّا قادرين على تلافيه لو أنّ الإشارات كانت تصل بالتدريج، فالحريات السياسية، فيما تعنيه، هي الأقنية الضرورية بين المجتمع والدولة، ومهمتها الأساس إيصال إشارات الإنذار المبكرة إلى الصعوبات التي يعاني منها الشعب، لكنّها كانت متعطّلة، لذلك انتصبت أمامنا مشكلة كبيرة متراكمة. 

دولة قوية وذكية 

• بعد كلّ هذه التراكمات التي أدّت، حسب تعبيرك، إلى حالة الانفجار، ما هو المطلوب للخروج بأقلّ الخسائر؟ 

الضرورة الأولى اليوم تتمثّل في إعادة النظر في النموذج الاقتصادي والسياسي، فما قبل الخطة الخمسية العاشرة وما بعدها كانا، من حيث التصنيف العلمي، نموذجين رأسماليين؛ النموذج الأول رأسمالي مضبوط بدور عالٍ للدولة التي تتدخل في الشأن الاقتصادي والاجتماعي وتحافظ على توازنات معيّنة، بينما النموذج الثاني انسحاب كامل للدولة، وإذا تحدّثنا عن خللٍ في النموذج الاقتصادي الرأسمالي فنحن بحاجةٍ إلى بحثٍ عميق عن النموذج الاقتصادي المطلوب، والذي يعمل على رفع التراكم (علاقة التوظيفات بالقطاعات الحقيقية على مجمل الناتج المحلي) بين 25 إلى 30 %، وهو ممكن وضروري، ورفع ريعية الليرة السورية التي، وفقاً للإمكانات، يمكن رفعها إلى 50 %، وبالتالي يتحقّق نموّ يصل إلى 12.5 %، وتغيير العلاقة بين الأجور والأرباح، فسورية اعتمدت تاريخياً على الميزات النسبيّة في تطوّرها، وبرأيي إذا ذهبنا إلى الميزات المطلقة الموجودة فقط في سورية، والتي، إلى الآن، مازالت خاماً، فسنستطيع تحقيق ريعية عالية، لكنّ هذا يتطلب دولة قوية وذكية تعرف الإمكانات الكامنة من موارد طبيعية وبشرية وتوظيفها، ولأنّ كلّ محافظة فيها عشرات الميزات المطلقة فلا يمكن لجهاز دولة اقتصادي بحت أن يحيط بها، وهذا يحتاج إلى اشتراك وتعاون قوى المجتمع نفسه وتفعيلها، وهذا يتطلب حياة سياسية غنية ومشاركة الجميع؛ أي تحويل البلد إلى ورشة عمل كبيرة وتحفيز كلّ الكفاءات وتنظيمها. 

 • إذا أردنا تحديد متطلبات هذا النموذج الاقتصادي، كيف يمكن أن نلخّصها؟

المشروع الاقتصادي المطلوب الآن يحتاج إلى حامل قويّ، حيث لا يمكن الفصل بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، لذلك الحريات السياسية مطلوبة بشكلٍ أساسي، ومن هنا انطلقت قوانين الأحزاب والإعلام وقانون الانتخابات، وكلها قادرة على حمل المشروع الاقتصادي، لأنها كلّ متكامل، فالجميع يتحدث عن الإصلاح السياسي، ولا خلاف على ضرورته، ولكن لا أحد يتحدّث عن إصلاح اقتصادي، فالكل لم يفتح أوراقه بعد، وإذا أردنا وضع الكلام عن الإصلاح الاقتصادي على سكّته الصحيحة، فهناك عنوان أساسي هو إعادة توزيع الثروة الذي يتحدّث عنه الجميع، لكنّ لإعادة التوزيع هذه تتمّة من خلال الإجابة عن تساؤل عمّن سيعاد توزيع الثروة عليهم، فالبعض يضمر ولا يستطيع أن يقول إنّه يقصد إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء أنفسهم؛ أي إعادة توزيع الحصص فيما بينهم، لكنّ المشروع المطلوب هو إعادة توزيع الثروة بين جميع أبناء الوطن؛ الفقراء والأغنياء، فالنمو اللاحق لا يكون إلا بهذه الإعادة لتوزيع الثروة بين الجميع؛ لأن تمركز الثروة أصبح عالياً إلى درجة أنّه لا يمكن تحقيق نموّ ولا استهلاك شعبي دون استرجاع وإعادة توزيع الثروة المتمركزة في أماكن قليلة، والإصلاح السياسي لن يؤدي إلى نتيجة ما لم نسر بالإصلاح الاقتصادي. 

• هنا يطلّ السؤال الأهمّ برأسه: هل سورية مؤهّلة لذلك أم لا؟

والجواب هو: هل هو ضروري أم لا؟

إذا كان ضرورياً يجب أن نكون مؤهلين، وعند الاتفاق على أنّ الاقتصاد والسياسة كلّ متكامل، لا يمكن الفصل بينهما، فلا يمكن تجاهل النشاط السياسي العالي الذي يشهده الشارع السوري اليوم، فهذا المولود الجديد الذي ظهر على الساحة خلال الأشهر الماضية، وهو الحركة الشعبية، طال انتظاره، فهو الضمانة في المستقبل لأيّ حركة سياسية في البلاد، وهو ضمانة للإصلاح الحقيقي، وهو ضمانة للوحدة الوطنية، فالمجتمع السوري كله يعمل في السياسة، من الصغير إلى الكبير، في التفكير والنقاش، وهذه اللحظات قاطرة للتاريخ، واليوم الواحد بسنوات من التطوّر العادي، فالشارع يتعلم بصورة متسارعة صياغة مطالبه ومصالحه الحقيقية، كما يعمل على صياغة قياداته، أمّا صمام الأمان في الحراك الشعبي الحاصل فهو، تحديداً، منع العنف في الحركة من داخلها أو ضدها، وأنا على ثقة بأنّ الحركة قادرة على التطوّر بسرعة، وإيجاد المخرج الآمن لسورية من الأزمة، وقادرة على إعادة إنتاج تلك القوى السياسية الضرورية لقيادة عملية الانتقال في البلاد، وهي لا تحدث في يوم ويومين، والضمانة الأساسية هي الحوار كونه صراعاً حضارياً سلمياً، ومن لا يريد ذلك فهو يريد صراعاً غير سلمي وغير حضاري. 

الحوار معركة ستعكس ميزان القوى المتكوّن مجدداً في المجتمع السوري، فدعونا نرسمه على الطاولة. 

• لا يمكن الحديث عن الإصلاح وخطواته العملية، وقبله الحراك الشعبي، دون الغوص في فسادٍ تجذّر في المجتمع السوري، فما هو الحل اللازم لتجفيف منابع الفساد؟

الحراك سيذهب إلى الإصلاح، وبالتالي المستفيدون من الفساد في جهاز الدولة كلهم سيتضررون، لذلك ليس لهم مصلحة في استمرار الحراك، فهناك قوى معيّنة في المجتمع تريد أن تصفي حسابات سابقة بسبب توزيع الثروة، وتريد، أيضاً، تشويه الحراك، وأخذه إلى اتجاهات أخرى، هنا يأتي التجييش الطائفي من الطرفين، أولئك الذين لا يريدون إلا توزيع الثروة فقط بين الأغنياء، وهناك من يريد بقاء الشكل السابق، وهناك من يريد توزيعها، والجمهور حطب بينهما، فمشكلتنا اليوم أنّ نقصَ مستوى الحريات أدّى إلى فسادٍ مستشرٍ لم يسلّط عليه الضوء، فانتشرت آليّاته المعقدة والمتشابكة، وامتدّ على طول البلاد وعرضها، والمفارقة أنّ الليبرالية الاقتصادية في أوروبا أحضرت معها ليبرالية سياسية، ولكن لدينا حدث العكس، وهذا ما جعل هناك فجوة ومستوى من عدم الثقة والصدقية بين الشعب وجهاز الدولة، وبالتالي محاربة الفساد، واسترداد الأموال الخارجة من الدورة الاقتصادية كفاقد اقتصادي هو المورد الأساسي لتحقيق النموّ المطلوب، وهذا ليس موضوعاً أيديولوجياً، وإنّما هو واقع عملي، فأموال الفساد تأكل حوالي ثلث الدخل الوطني إذا كان 2700 مليار؛ أي أنّها تصل إلى حوالي 900 مليار سنوياً، وهذا الرقم كافٍ لتغطية النمو والاستهلاك الضروري، لذلك يجب أن يعاد توزيعها بين الأجور والتوظيفات.

وفي شقٍ آخر من المشكلة، جهاز الدولة، وليس الدولة، تَضخّمَ واستقلّ نسبياً عن المجتمع، ليرى أنّ المجتمع خادم له، وهنا يجب تصحيح العلاقة، فجهاز الدولة يخدم المجتمع، وهذا يتطلّب قناة اتصال حقيقية بين المجتمع والدولة. 

عقد اجتماعي جديد 

•  ما هو العقد الاجتماعي المطلوب لإعادة صياغة العلاقة وتصحيحها؟

 

رغم كلّ المشكلات التي سبق ذكرها، وما تحتاج إليه من قدرٍ كبير من الحوار والنقاش الذي يدعو إليه الكثير من أطياف المجتمع، بات الخروج بعقدٍ اجتماعيٍ جديد أمراً ملحاً، حيث لم تعد المادة 8 في الدستور هي المشكلة، وإنما نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يؤسس لبنية سياسية جديدة ووعيٍ اجتماعيٍّ سياسيٍّ جديد، فالدستور الأول في البلاد امتدّ منذ الاستقلال حتى العام 1972، يعني أن عمره 26 سنة، أما الدستور الثاني، فمن ذلك الحين إلى الآن؛ أي أنّ عمره 40 سنة، لذلك أصبحنا بحاجة للذهاب إلى دستورٍ جديد يكون هدفه خدمة وكرامة المواطن، ويضمن جميع الحقوق الطبيعية للإنسان فحقّ الكلام وحق التعبير ضروريان لحماية كلّ الحقوق الأخرى وتأمينها، لكنّ هذين الحقين، إذا لم تؤمَّن باقي الحقوق، لن يؤديا إلى نتيجة، وسيكونان فارغين من مضامينهما، فالإصلاح السياسي دون مضمون إذا لم يتماشَ مع الإصلاح الاقتصادي.