الخصخصة.. سلاح تدمير شامل...
تصاعدت في الآونة الأخيرة موجة جديدة من محاولات الخصخصة على الطريقة السورية المخففة، والتي تسمى «استثماراً» لمنشآت تملكها الدولة. ولو اقتصر الأمر على منشآت هامشية بالنسبة لأهميتها الاقتصادية والاجتماعية لما توقفنا كثيراً عند الأمر، رغم الدلالات الخطيرة التي يمكن أن يحملها، ولو اقتصر الحديث حول المنشآت التي يقال عنها أنها خاسرة، لدخلنا في جدال عن حقيقة كونها خاسرة أو مخسّرة، ولكن أن يكون الاتجاه نحو نقل حق استثمار شركات أو مؤسسات أو منشآت لها أهمية استراتيجية ورابحة على طول الخط منذ نشوئها حتى اليوم، فإن القضية تستحق التوقف والنقاش والتنبيه من مخاطر إجراءات كهذه فيما لو طبقت.
لقد استطاعت القوى الحية في المجتمع والدولة أن تصد، وأن تفشل الموجة الأولى من محاولة الخصخصة تحت يافطة الاستثمار لبعض المنشآت مثل الحديد والكونسروة، ولكن قوى الفساد المدعومة من قبل قوى الليبرالية الجديدة التي أصبح لها وزن في الحكومة لم يفتّ الأمر في عضدها، فقامت بهجوم ثان تمثل في الموجة التي حاولت أن تخصخص معامل الأسمنت، ولم يكن مصيرها أفضل من الأولى.
والآن، بدأت الموجة الثالثة لتطال بعض المرافئ وبعض أجزاء من شبكة الخطوط الحديدية السورية، ورغم كل ما يمكن أن يقال بأن العقود المزمع توقيعها هي مشاركة جزئية في هذه المنشآت أو استثمار أو تشغيل لبعضها من قبل القطاع الخاص، إلا أن الأمر قد انتقل اليوم إلى مستوى جديد يهدد جدياً المكتسبات الاقتصادية ـ الاجتماعية التي تحققت في سورية خلال العقود الماضية.
حين قلنا سابقاً إن من يملك يحكم وإن من لايملك لايحكم في معرض إشارتنا لخطورة الخصخصة على البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القائمة، لم نكن نقصد الملكية من الجانب الشكلي والقانوني، وإنما كنا نقصد ملكية الثروة الجديدة المنتجة في الاقتصاد الوطني، فبقاء الملكية شكلياً للدولة وتحول الفائض الاقتصادي المتاح من العملية الإنتاجية الحقيقية إلى «الحيتان الجدد»، يعني بكل بساطة نقل نتاج الملكية لها، ويبقى تغيير شكل هذه الملكية بعد تراكم ثروتهم المحصلة من منشآت الدولة التي بنيت على حساب الشعب، أمراً مرتبطاً بالظرف والزمن المناسب.
لذلك، وتدقيقاً لما قلناه سابقاً نقول: إن من سيملك القسم الأكبر من القيمة المنتجة مجدداً على نطاق الاقتصاد الوطني، أي القيمة المضافة الجديدة، أي بكلام آخر الثروة الجديدة المضافة على الثروات المتراكمة السابقة، إن من يملك هذه الثروة هو من سيحكم فعلياً حتى ولو كانت الملكية باسم غيره شكلياً.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن الأمر المطروح اليوم مرتبط بقضية استراتيجية تهم الأمن الوطني، أي قضية النقل بمعناه العام (مرافئ ـ سكك حديدية) لفهمنا خطورة ذلك.
إن تجربة التاريخ برهنت أن الخصخصة الجزئية أو الكاملة للأعصاب الأساسية لشبكة النقل هي أمر خطير، ويماثل في قدرته التدميرية أسلحة الدمار الشامل، وهو أمر لم يجر حتى في البلدان التي عصفت بها موجة الخصخصة والتهمت فيها الأخضر واليابس، فسكك الحديد الروسية والمصرية هي حتى اليوم ملك للدولة، وتقوم هي نفسها باستثمارها، كما أن المرافئ الكبرى وخدماتها احتكار للدولة لايسمح لأحد بالمساس به، وهي تدخل ضمن ما يسمى بالاحتكارات الطبيعية التي يمنع منعاً باتاً الاقتراب منها لأنها تمس أمن المجتمع والدولة ووحدة البلاد. وإذا كانت مرافئنا وسكك حديدنا تعاني من مشاكل، فإنها مشاكل إدارة فاسدة أو غير كفوءة بأحسن الأحوال.
إن معالجة مشاكل الاقتصاد الوطني لن تتم بنقل ملكية الدولة إلى الرأسمال الكبير الخاص بحجة الاستثمار، وإنما بإصلاح شامل عنوانه اجتثاث الفساد، وخاصة الكبير منه، ومحاربة النهب الذي ينهك الدولة والمجتمع، وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن.