المخرج من أزمة البنى السياسية السورية
يبدو أن ما دأبنا عليه في صحيفة قاسيون من نفي ورفض وتعرية للثنائيات الوهمية المنتجة في مراكز الأبحاث المعادية والمسوقة بمهارة في الحياة السياسية السورية وغيرها؛ قد غدا أداةً معرفيةً فاعلةً في عقول المثقفين والسياسيين الجادين، بعد أن تاه معظمهم في الإجابات الخاطئة عن الأسئلة الخاطئة.
وما يهمنا في هذا المقام بالتحديد هو انحسار الثنائية الوهمية: (نظام/معارضة) في مقابل تمظهر ثنائية حقيقية هي: (مقاومة/ مساومة).
ولئن كانت هذه الأداة المعرفية لم تكن بحاجة إلى كبير عناء فكري ونظري، ولئن لم تُستشعَر بوقتها رغم دلالاتها الكثيرة التي تفقأ العين، ولئن ما زال الكثيرون يتجنبونها عن سوء نية أو قصور عقلي؛ فإن ما يدعو إلى الارتياح النسبي، هو أنها باتت تضع كل مُحاوِلٍ في تسويق الثنائية الوهمية آنفة الذكر أو غيرها خارج الحياة السياسية الجدية.
هل هذا انتصار فكري أو نظري؟؟؟
أظن أن إجابتنا الإجبارية بكلمة نعم سوف ترينا كم هي بائسة الحياة السياسية السورية والفكر السياسي السوري، حتى بتنا نعتقد أن مثل هذه الفكرة البديهية سوف نضطر في الفكر السياسي السوري أن نعتبرها انتصاراً، ونفرح(1) عندما نرى مثقفين وسياسيين يتبنونها!!.
الآن .. وبعد أن تم ما تم، يبدو أننا بحاجة إلى خطوة أخرى إلى الأمام، راجين فيها أن لا تنقطع أنفاسنا في شرحها للناس، كما حدث معنا في الثنائيات الوهمية والحقيقية..
تجري الآن جهود نظرية وفكرية للبحث عن أماكن تموضع قطبي ثنائية: (مقاومة/مساومة) في الحياة السياسية،وكتبت العديد من الأبحاث والمقالات الجادة والرصينة في البحث عن مقومات المشروع المقاوم في سورية، كما رفع الكثير من المثقفين الوطنيين صوتهم في هذا الركام مستنهضين المشروع المقاوم، وداعين كل غيور على مستقبله ومستقبل وطننا لأخذ زمام المبادرة للاستفادة القصوى من الإمكانيات المتاحة أمامه، ولعل أهم ما كتب في هذا المجال على الإطلاق، هو ما كتبه الرفيق الدكتور ميخائيل عوض في مقالته المنشورة في العدد الماضي من قاسيون (العدد 284)، تحت عنوان (سورية في المرحلة الحرجة: التحديات والفرص)، والذي وجد أن أعمدة هذا التيار المقاوم ثلاثة، هي: الرئاسة والجيش والشعب. وأن هنالك تحديات خمسة، المبادرة في التعاطي معها يحولها إلى فرص للمشروع الوطني المقاوم، كما تتيح مواجهة هذه التحديات والاستفادة بالوقت ذاته من إمكانيات النجاح فيها، بناءَ مشروع مقاوم جدي وحقيقي يعتمد على البنى بدل الاعتماد على المواقف العابرة.
والذي يدفعنا اليوم للكتابة في هذا المجال؛ هو ما نلحظه من خطر قادم يتلو وصول الفكر النظري للمشروع المقاوم إلى ما وصل إليه عبر ما كتبه الرفيق العزيز ميخائيل عوض، إذ ما أن ينتهي المرء من قراءة ما كتبه ويستشرف آفاق تطور المشروع المقاوم حتى يشعر بنفسه أمام خطر داهم هو خطر الانتهازية النزيهة.
والذي يدعونا إلى التنبيه عليها، ليس بكل تأكيد ما تضمنه مقال الرفيق ميخائيل عوض، فلو كان كذلك لهان الأمر، بل ما يمكن أن يبنيه بعض الآخرين على ما توصل إليه.
الذي يدعونا إلى التنبيه عليها أن هؤلاء يمتلكون أرضية خصبة جداً ليترعرعوا فيها، إنها أرضية الفصل بين الوطني والاجتماعي، بل، إقصاء الاجتماعي لصالح الوطني وانتهاز الفرص له.
لقد عَرِفنا دائماً الانتهازية النزيهة مرضاً يرافق نهوض المشاريع الوطنية والطبقية النبيلة. وهي لازمةٌ على الدوام لهذا النهوض. حيث تتشكل معرفياً عندما تسبق الأحداثُ الفكرَ السياسي، وتتفوق الرغباتُ النبيلةُ على الدراسات الموضوعية، فتفارق الإراداتُ المعرفةَ عندما تسبقها، بدل أن تسبق المعرفة الإرادات فتكون الثانية ناتجة عن الأولى. لا تلبث المعرفةُ أن تنتقم لنفسها من الإرادات النبيلة، فتلجمها ثم تطيح بها هاتفةً: أنا الأصل لانطلاقك..
نبالة الأهداف ونزاهتها لا تجعل الانتهازية شيئاً آخر، وإن كانت تجعلها أشد قوة وخطورة..
نعم... إنها الانتهازية بكل ما تعني الكلمة من معنى.... انتهازية استثمار الفرص لا خلق بنى مقاومة حقيقية على أساس علمي.. انتهازية الفهلوة الوطنية المؤقتة لا بناء القوى الحقيقية للمقاومة.. إنها الانتهازية الأخطر .. لأنها الانتهازية الوطنية... لأنها الانتهازية النزيهة .. وأخطر ما فيها أنها تمتلك قوة تسويقية هائلة في الوعي السياسي الوطني... إنها الانتهازية الأخطر لأنها تحقق انتصارات سريعة تتبعها حكماً إخفاقات مريعة... فهل انتهاز هذه الفرص سوف يؤمن البنية السورية المقاومة الحقيقية؟؟
بكل تأكيد لا.. ما الذي سوف تؤمنه في حال الاستجابة لها؟؟
أظن أن أقصى ما يمكن أن تحققه هو انتصارات مؤقتة سوف تسمح لنا لاحقاً بانهيارات مريعة كونها لن تكون أكثر من مخدر مؤقت لأمراض مستعصية لا يمكن الخلاص منها إلا بعمليات جراحية قد تكون مؤلمة.
كيف نشخص نحن المسألة؟؟ وبالتالي: ما هي الاستنتاجات؟؟
أولاً: تشخيص المسألة:
إنه لأمر بديهي أن نعود خطوة إلى الوراء، فندرس معطيات الواقع الحالي للدولة السورية، وقوانين عملها، وإمكانياتها الحالية والكامنة فيها، حتى يمكننا معرفة قوانينها، وبالتالي التحكم في هذه القوانين، بما يسمح لنا بتحويلها من وضعها البائس الحالي إلى دولة مقاومة حقيقية، تكون المقاومة فيها أصيلة وناتجة عن بنيتها لا عن فرص متاحة أمامها يُفترض بها أن تنتهزها.
ما هي بنية الدولة السورية الحالية؟
تتألف الدولة السورية الحالية من بنيتين أساسيتين هما: البنية الدواوينية والبنية العسكرية.
البنية الدواوينية:
وهي تتألف من الوزارات المدنية، والإدارات، والمؤسسات، وجيش الموظفين الإداريين، العاملين في نهاية المطاف كخدم مخلصين لصالح الفساد القانوني والغير قانوني، حيث توضع السياسات دوماً وراء الكواليس، وتكون معبِّرة في الجوهر والحقيقة عن مصالح مراكز النفوذ الاقتصادي، ولا يهم في هذا المجال إن كانت مراكز النفوذ شرعية (قوى الليبرالية الأنيقة/بنت الحلال) أم بنت حرام (قوى الفساد الكبير)، لأنها في كلتا الحالتين تعمل على جني ثرواتها على حساب لقمة الشعب وكرامته.
هذه البنية الدواوينية بطبعها محكومة على الدوام بخدمة مراكز النفوذ الاقتصادي، وهي جاهزة على الدوام لخدمة أصحاب القرار، بغض النظر عن لبوس أصحاب القرار وتغير هذا اللبوس. إن مهمتهم تنحصر في كونهم موظفين .. أي في خدمة من شاء أو شاءت الأقدار أن تجعله سيداً عليهم، ولا ينفي توصيفنا لهم بالخدم حيازتهم على بعض الرِشى والامتيازات من سادتهم، والتي تجعل البعض يوصِّفهم بالفساد المتوسط، فما هذه الرِشى والامتيازات إلا مكافآت حسن الأداء وحسن السيرة والسلوك، خاصة أن هذه الفُتات لا تكون إلا على حساب الشعب وجمهور الكادحين.
لا أظن بأن أحداً سوف يجادلنا في أن المصلحة السياسية الحقيقية لمراكز النفوذ الاقتصادي بشقيه ( ابن الحلال وابن الحرام) يتناقض من حيث البنية والتطور والمآل مع أي مشروع مقاوم في سورية، بل ويرتبط عضوياً مع المشروع النقيض للمشروع المقاوم، فيمثل نقاط الاستناد المتقدمة له في الداخل السوري.
وتبلغ المصيبة ذروتها عندما نرى أن مراكز النفوذ بشقيها ليست حالة معزولة عن المجتمع، بل هي مرتبطة به أشد الارتباط، ومتحكِمة في كل أثنائه، عبر جهاز الدولة الدواويني وسلطته على المجتمع، ضد المجتمع.
وهنا يفقأ أعيننا السؤال البسيط: هل نملك بنية دولة مقاومة؟؟
كم هي قاسية الأسئلة البسيطة!!!
يبدو أن من عجائب سورية وخصائصها التاريخية الكثيرة، أن تضيف دوماً، جديداً ما، على هندسة الفكر السياسي. فإذا كنا قد عهدنا في الفكر السياسي الكلاسيكي أن يكون الجيش والمؤسسات العسكرية على الدوام أداةً من أدوات الإكراه، تساعد الدواوينية في تنفيذ قرارات مراكز النفوذ الاقتصادي؛ فإن الخصائص التاريخية لسورية، مضافاً إليها ضراوة العدو وشراسته قد أضافت جديداً على الفكر السياسي. يتمثل هذا الجديد في امكانية تحول دوره من أداة بيد الدواوينية إلى أداة بيد الشعب في دفاعه عن نفسه.
ولولا مخافة أن يدخل في حكمنا بعض الحيف، لقلنا: أن مآلات التطورات اللاحقة التي ستعصف بوطننا وشدة الخطر القادم سوف تجعل منه بكل تأكيد أداةً بيد الشعب ضد الدواوينية، أي أنه من الناحية النظرية، سوف يستبدل دوره-المشخص بالفكر الكلاسيكي- بدور نقيض يسمح له بأن يلعب دوراً تقدمياً وثورياً للغاية، من الناحية الاجتماعية.
واقع الجيش والمؤسسة العسكرية يسمح لنا بالاستنتاج، أنه ما زال حتى اليوم يلعب دوراً هاما في حماية السياسة الوطنية السورية وفي دعم المقاومة الوطنية في فلسطين ولبنان. وهذا الدور على أهميته القصوى لن يلبي بحال متطلبات المرحلة القادمة في حماية الوطن، كما أن الاقتصار على هذا الدور لن يسمح له بالتدخل التاريخي ضد الدواوينية. ونكاد نجزم أن وزنه النوعي في المشروع المقاوم لن يأخذ مداه الحقيقي والضروري إلا بتغييره لعقيدته العسكرية وتحوله التدريجي من جيش تقليدي إلى جيش مقاومة شعبية، عندها سيكون جيش الشعب شكلاً ومضموناً.. عندها سيكون بحق جيش الشعب الكادح.. وسيأخذ دوراً اجتماعياً ينسجم ودروه الوطني، وسيكون بحق طليعة الشعب الكادح في الدفاع عن كرامة الوطن والمواطن. وما تجربة رجال المقاومة في حزب الله منا ببعيدة، في دورهم الاجتماعي.
ثانياً: الاستنتاجات:
لعل القارئ لتشخيصنا لوضع الدولة السورية قد استنتج معنا، أن الداء الدوي الذي يعاني منه المشروع المقاوم في سورية، يتمثل في بنية الدولة الدواوينية، التي تشكل موضوعياً أداة التنفيذ لمراكز النفوذ الاقتصادي بشقيها الشرعي وغير الشرعي. ونعتقد جازمين أن تكتيك المشروع المقاوم لا ينبغي بحال أن يرتكز على قرارات فوقية ضد مراكز النفوذ على أهميتها، فكل النوايا الطيبة لدى المشروع المقاوم بإصلاحات فوقية لن تكون بحال أكثر من محاولات يائسة، ستقوي مراكز النفوذ بالمحصلة بدل أن تضعفها، ولن تمثل المحاولات الإصلاحية الفوقية، مهما حَسُنت نيتها، أكثر من تمارين مدرسية يلهو بها أصحاب النوايا الطيبة، وتلهو بها وبهم مراكز النفوذ الاقتصادي.
الأمر - كل الأمر - في النهوض الشعبي ضد الوظيفة الحالية للدواوينية، باعتبارها الشكل المباشر والمرئي أمام الشعب لقوى النهب والاستغلال والمشروع المساوم.
النهوض الشعبي ضد الوظيفة الحالية للدواوينية، وإطلاق طاقات الجماهير، وأخذها زمام المبادرة، هو الأمر الوحيد الذي سيعيد الأمور إلى نصابها، ويجعل الدواوينية أداةً بيد الشعب بعد أن كانت أداةً بيد مراكز النفوذ الاقتصادي. ولن يتم ذلك إلا بالرقابة الشعبية الصارمة لها. عندها ستكون الدواوينية في خدمة الشعب الكادح بعد أن كانت سيدة له وخادمة لمراكز النفوذ.
بهذا فقط، ستكون الوظيفة الدواوينية الجديدة سلاحاً للمشروع المقاوم بعد أن كانت سلاحاً عليه.
بالوظيفة الجديدة للدواوينية المتحكم بها مباشرة من كل فئات الشعب الكادح، يتطور النضال الاجتماعي ويلتحم بالنضال الوطني، حتى يغدوا أمراً واحداً. وبالوظيفة المقاومة للجيش والمؤسسة العسكرية وبحثها عن سندها الاجتماعي، والتقاطه، والاستناد عليه يلتحم النضال الوطني بالنضال الاجتماعي.
عندها فقط، لن يكون الخيار الرسمي المقاوم يافطة معلقة على أبواب القصر الجمهوري على حد تعبير الرفيق ميخائيل عوض، بل سيتوغل إلى أعمق أعماق المجتمع السوري وبناه. وسيصبح لكلمة الشعب معنىً آخر.
عندها فقط سنشهد سورية دولة عظمى وعصية على أي عدوان مهما استشرس، ومهما تنوعت أساليبه.
عندها فقط، سوف تنتهي التناقضات الداخلية وتلتحم القوى جميعها - الرئاسة والجيش والشعب - في مواجهة التناقض مع العدو الأمريكي الصهيوني.
بذلك فقط نبني دولة مقاومة، أو نسير في بنائها، فنكون سنداً قوياً لأي مشروع مقاوم في المنطقة.
ودون ذلك، لا يمكن الحديث على الإطلاق عن نجاح استراتيجي حقيقي للمشروع المقاوم في المنطقة ولا عن أي دور إقليمي لسورية لا يمكنها العيش بدونه.
1- «إن الله لا يحب الفرحين» سورة القصص الآية (76) .
2006/11/7