يجب ألا يضع التدخل العسكري ضد سورية الحركة الشعبية بين فكي كماشة!
«على هذه الأرض ما يستحق الحياة».. على هذه الأرض استشهد عبر التاريخ آلاف المناضلين السوريين الذين رفضوا العيش بذل تحت نير المستعمر، وآثروا الوقوف في وجهه، رغم التفاوت الكبير في القوة والعتاد، مؤمنين بوطنهم، وموقنين بعدالة قضيتهم، ولم يكن يوسف العظمة آخرهم، لكنه كان أهم رموزهم حين سطر أروع ملاحم البطولة والفداء، عندما قرر مواجهة الاستعمار الفرنسي بعدد قليل من الرجال، وآثر الشهادة على أن يقال بأن فرنسا دخلت سورية دون مقاومة، ليكمل الطريق بعد استشهاده آلاف الثوار من أمثال الشيخ صالح العلي، وإبراهيم هنانو، وسلطان باشا الأطرش...
رغم اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم، إلا أنهم رسموا لوحة فسيفسائية وطنية تعبر عن وحدة الشعب السوري بمختلف ألوانه وأطيافه في وجه الاستعمار. هذا هو الوجه الحقيقي للشعب السوري الذي رفض ويرفض أي اعتداء أو تدخل خارجي في شؤونه الوطنية، حتى ولو كان تحت ستار حقوق الإنسان ومساعدة حراكه الشعبي المطالب بالحرية.. هذا الحراك الذي عرف كيف يرفع صوته ويطالب بحقوقه، يتمتع بدرجة عالية من الوعي والثقافة، تعينه على اكتشاف وفهم حقيقة التحركات والتصريحات الدولية التي تحاول إيهامه بأن أي تدخل عسكري في سورية سيكون لحمايته ومساعدته على تحقيق مطالبه.
إن الظروف الحالية التي يمر بها عدد من الدول العربية عموماً وسورية خصوصاً، تشبه إلى حد كبير تلك الظروف التي مرت بها في أواخر الاحتلال العثماني، عندما أعلنت الثورة العربية على الدولة العثمانية، والتي سارعت الدول الاستعمارية حينها لمساعدتها واستغلتها لتقاسم الوطن العربي ومنح فلسطين هدية للصهاينة، وهي الآن بتحركاتها الأخيرة تحاول استعادة أمجادها الاستعمارية بالسيناريو القديم نفسه، أي بإظهار تعاطفها وتأييدها الثورات العربية في بادئ الأمر، ثم التلويح بتدخل عسكري بحجة حماية الشعوب الثائرة من بطش حكامها، ومن ثم الدخول العسكري الفعلي واحتلالها بذريعة أن البلاد غير قادرة بعد على إدارة شؤونها بنفسها. فالتلميحات الأمريكية والأوربية عن احتمال التدخل العسكري تعتبر بمثابة الخطوة الأولى لتطبيق هذه الأجندة في سورية، بهدف إعادتها والمنطقة العربية إلى عهد الوصاية الدولية، فالذرائع التي تتخذها هذه الدول لتبرير أي تدخل عسكري في سورية تشبه أيضا تلك التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان، وحلف النيتو في ليبيا مؤخراً، والتي كان هدفها الظاهر مساعدة الشعب على التخلص من جور حاكمه والحصول على الديمقراطية، في حين أن الهدف الحقيقي غير المعلن هو احتلال هذه الدول ونهب ثرواتها وتحديداً النفطية منها.
أي تدخل عسكري في سورية سيبدأ بقصف البنية التحتية فيها، وتدميرها كلياً وإضعاف قدراتها الدفاعية والإدارية حتى يسهل احتلالها فيما بعد، إضافة إلى الكم الهائل من أرواح الشعب السوري التي ستزهق (بالخطأ) على النحو الذي اعتادت هذه الدول تبريره في حال سقوط قتلى مدنيين جراء قصفها وعملياتها العسكرية. لكن الخطر الأكبر على سورية سيكون على شكل ديون قد تصل إلى مليارات الدولارات، حيث سيترتب على الشعب السوري تسديد ثمن الرصاص والصواريخ التي سيقتل بها فيما لو أصبح التدخل العسكري الخارجي أمراً واقعاً، مما سيضع سورية تحت رحمة هذه الدول لأعوام طويلة قبل أن تسدد ديونها، التي ستكون أداة للسيطرة عليها واحتلالها بشكل غير مباشر فيما لو فشل الاحتلال المباشر، وجعلها أداة لتنفيذ المشاريع الاستعمارية في المنطقة بحكم موقعها الاستراتيجي.
وفي حال حصلت هذه الدول الإمبريالية الاستعمارية من مجلس الأمن على قرار يؤيد التدخل العسكري في سورية، ستمسي الحركة الشعبية بين «فكي كماشة»، أي في مواجهة حقيقية على جبهتين في آن معاً، وتحت شعارين مختلفين، أحدهما «سلمي» للاستمرار بالمطالبة بالحقوق المشروعة المحروم منها طوال عقودٍ مضت، والثاني «مسلح» بالتحالف مع الجيش الوطني في وجه أية محاولة دولية للتدخل عسكرياً في سورية، فتاريخ هذه الدول الاستعماري يؤكد أنها لم تتحرك يوماً لنصرة أية ثورة شعبية في أي بلد كان، بل كان لها دائماً أهدافها الاستعمارية من وراء هذه المساعدة، ومن عول على مواقف مثل هذه الدول وطلب منها المساعدة تاريخياً كان الخاسر الأول والأكبر.
إن تاريخ سورية الثوري في مواجهة الاستعمار العثماني، والفرنسي من بعده، يشهد بأن شعبها لن يرضى بأي تدخل عسكري في بلاده، وبأنه قادر على دحر أي محتل قد يفكر بدخول أرضه، مهما عظمت إمكانياته وقدراته العسكرية، من خلال وحدة صفه الوطني على اختلاف معتقدات مكوناته الدينية والسياسية، لتكون عقيدته الأولى والأخيرة عبر تاريخه الثوري التقدمي: «الدين لله، والوطن للجميع»، كما أن تاريخه يشهد بأنه قادر على نيل مطالبه وحقوقه الوطنية المشروعة دون مساعدةٍ أو وصايةٍ من أية جهة دولية.