الحركة الشعبية والجيش في مواجهة التدخل الخارجي

ينتشر في أوساط النظام حديث مفاده: «لا توجد إمكانية حقيقية لتدخل عسكري خارجي»، وذلك استناداً إلى تحليل يرى في ضعف الولايات المتحدة الأمريكية وتأزمها عاملاً حاسماً يمنع التدخل العسكري، ويرى أن الخصوصيات الإقليمية للوضع السوري من علاقتها بإيران وحزب الله وما تملكه من أوراق إقليمية، يجعل من المستحيل وجود أدنى احتمال في أن تقدم تركيا أو غيرها على تدخل عسكري في سورية..

وترى، بالمقابل، أوساط داخل الحركة الشعبية أن الضغط الخارجي على النظام السوري سيساعدها على الوصول إلى هدفها المعلن، أي إسقاط النظام، ويذهب البعض إلى قبول أو تبرير التدخل العسكري تحت ذريعة أن لا آفاق أخرى دون تدخل خارجي!! 

يحمل هذان الاتجاهان في التفكير، وتالياً في الممارسة، خطراً هائلاً على المصلحة الوطنية العامة، التي هي مصلحة السواد الأعظم من الشعب السوري «موالاته» و«معارضته»، ويفتقر إلى الحد الضروري من المسؤولية الوطنية التاريخية.. وله في الأوساط المختلفة مبرراته المباشرة وأسبابه البعيدة، ولعل السبب الأساسي في شيوع مثل هذه الآراء إلى جانب من يشيعونه لمصالحهم الخاصة المعادية لمصالح الشعب السوري، هو الخلل المعرفي الكبير الذي يودي بأصحاب النوايا الحسنة إلى جهنم..! 

أهداف التدخل الخارجي..

«لكي نعرف ماذا يوجد في سورية، علينا أن نعرف ماذا يوجد في سورية وماذا يوجد في أمريكا..!»، فـ«أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا»، وهذا الكلام ليس ضرباً من الفنتازيا التاريخية، فسوقاً على ما يقول مظفر النواب نقول: «هاتوا لي واقعاً أكثر فنتازيا مما نحن فيه»، فأمريكا التي لم تهتز لها شعرة لقتل ملايين المدنيين في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، ومن قبلها فيتنام وغيرها الكثير، تتحول اليوم إلى مدافع عن حقوق الإنسان وحامي للمدنيين في سورية! بريطانيا المملكة التي لا تغيب عنها الشمس الدامية، وفرنسا قلعة الحرية المرفوعة على جماجم الأفارقة.. السعودية التي لا تزال ترقص الجنادرية مع بوش وربما يعلمها أوباما الآن السامبا أو التانغو أو ربما الهيب الهوب بالقلابية.. تركيا وتدريباتها العسكرية المشتركة المستمرة مع الكيان الصهيوني..الخ.. الخ.. كل هؤلاء، وفي غفلة من التاريخ، يتحولون إلى «حماة الديار»!!

يراد بالكلام السابق إعادة تثبيت حقيقة قديمة جديدة وهي: لا يمكن لأي تدخل خارجي أن ينطلق من مصلحة الشعب السوري، وهو إنما ينطلق من مصالحه الخاصة.. ويبقى أن نثبت أن تلك المصالح هي بالضد تماماً، وعلى طول الخط، من مصلحة الشعب السوري.. وهذا ما سنعود إليه لاحقاً في سياق هذه المادة.

النظر إلى الحرب من وجهة نظر الربح والخسارة باعتبارها نشاطاً اقتصادياً- سياسياً، يأخذنا إلى الحقيقة البسيطة القائلة: إن معدل الربح في النشاط المالي أعلى بما لا يقاس من أرباح النشاط الحربي عدا عن الخطورة العالية للاستثمار في الحرب، وعليه فإن من البدهي أن توجه الرأسمال باتجاه الحرب هو توجه اضطراري وليس اختيارياً، وعليه فقد استطاع كل من أدرك هذه المعادلة البسيطة أن يقرأ في خروج الولايات المتحدة للحرب على أفغانستان ملامح أزمة عميقة ما لبثت أن انفجرت في 2008، وهي الآن على وشك الدخول في طور جديد من الأزمة أكثر حدة وخطورة، لذا فهي محكومة بالحرب، ومحكومة بتوسيع رقعة الحرب للحفاظ على الدولار كعملة عالمية تضمن لها ريعاً هائلاً يسمح لها بالحفاظ على مستوى الاستهلاك الداخلي، وذلك من خلال وضع اليد على موارد النفط وضمان تسعيره بالدولار مما يضعف المنافسين ويؤجل الانهيار المحتم للدولار.. وإلا فإن فشل هذا المخطط يعني ذهاب أمريكا نحو أزمة اجتماعية ضخمة ونذر تفكك داخلي، وما يتبع ذلك من تعاقب انهيار سلسلة الدومينو المالية- الاقتصادية العالمية المعولمة والمرتبطة بعضها ببعض بحبل السرة للشركات والكتل المالية الكبرى العابرة للقارات..

نستطيع عند هذا الحد تثبيت الاستنتاج القائل: إن تأزم الوضع الأمريكي يعني ازدياد احتمالات الحرب والتدخل العسكري في كل مكان، عكس ما يروج له في بعض أوساط النظام وربما أوساط مناوئيه كما أشرنا سابقاً..

إن شكل التدخل المطلوب هو على ما يبدو حتى الآن، تدخل عسكري تركي يفجر الفوالق الموجودة ضمن تركيا وضمن سورية، ويجر معه إيران والعراق إلى ساحة معركة دامية تتصل من الشمال والشرق بالباكستان وأفغانستان وأوزبكستان، ومن الغرب بجورجيا ودول البلقان، ليغدو حوض المتوسط الشمالي الشرقي حتى قزوين، بل وحتى حدود الصين، ساحة لمعركة داخلية تقتتل الشعوب ضمنها على أساسات مختلفة طائفية وقومية وإثنية وعرقية.. وتجني أمريكا الأرباح بأقل تكلفة ممكنة، وحينها سيغدو النموذج الليبي مجرد اختبار صغير للمعركة القادمة يشبه الاختبار الإسباني ما قبل الحرب العالمية الثانية.. وعند هذا الحد يمكن أيضاً دحض كل محاولات «الفهلوية» المعارضة التي تريد الاستفادة من الضغوط الخارجية دون تقديم تنازلات، وكأنهم يظنون أنفسهم قادرين على اللعب مع الدول الكبرى و«تنجير الخوازيق» لها، وهم بذلك لا يفعلون إلا أنهم ينجرون الخوازيق للشعب السوري.. 

من يريد التدخل الخارجي؟

استعرضنا فيما سبق رأيين متناقضين شكلياً ويصبان في المستنقع نفسه، والتصدي لكليهما يستلزم إعادة قراءةٍ وتحديدٍ للحامل الاجتماعي للرأيين، وهو واحد، كون المصلحة منهما واحدة، وهي ضد مصلحة الشعب السوري، ولنفعل ذلك علينا التأكيد على أساسات الرؤية لما يجري في سورية اليوم..

ترتكز الحركة الشعبية في سورية إلى مقومات موضوعية، اقتصادية- اجتماعية وديمقراطية خلقت احتقاناً هائلاً في صدور أبناء الشعب السوري من خلال الممارسات القمعية بوجهيها الاقتصادي- الاجتماعي المتمثل في زيادة نسب الفقر عن 41% وتضاعف أرقام البطالة وتراجع الخدمة الصحية وخدمات التعليم والسكن والكهرباء والماء....الخ، وبوجهها الآخر الأمني الذي تمثل بقمع حريات الناس وكتم أصواتهم الحرة في انتقاد الفساد ومحاسبته، وليس آخر أشكاله قمع المظاهرات الحالية والتضييق عليها..

ويتضمن الكلام السابق حقيقة إن إحدى مشكلات التعاطي مع التدخل الخارجي هي تصويره على أنه مجمل الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية الحالية والسابقة، والتهديدات العسكرية الحالية والسابقة.. فقط. على أن التدخل الخارجي في سورية يتضمن فيما يتضمن، تطبيق الحكومة لسياسات صندوق النقد الدولي باتباعها النموذج الليبرالي الاقتصادي الذي كان من أول الأثافي التي رفعت سورية فوقها لتصلى نار التدخل الخارجي، وذلك بأن هيأت هذه السياسات حالة من عدم الرضا ومن الاحتقان الاجتماعي قابلة للانفجار عند أقل سبب، وجاء السبب على يد إحدى العقليات الأمنية المستكبرة والمستبدة.. وكان ما رأيناه..

وعليه فإن الحامل الاجتماعي للتدخل الخارجي هم المستفيدون من السياسات الليبرالية ومن الفساد المرافق لها، وهذان صنفان، الأول الفساد الكبير داخل جهاز الدولة والمرتبط ارتباطاً وثيقاً مع الأجهزة الأمنية، والثاني برجوازية الاستيراد والتصدير خارج جهاز الدولة، المرتبطة هي الأخرى بالأجهزة الأمنية، واللذان يشكلان بمجموعهما ما لا يزيد عن 5% من مجموع الشعب السوري، ولكل منهما ميليشياته المسلحة من «عصابات مسلحة»، و«شبيحة مسلحين» يؤديان من حيث الجوهر وظيفة واحدة، هي قسم الشعب السوري على أساس موالاة ومعارضة سياسياً، وقسمه على أسس طائفية وقومية على الأرض، وذلك لجعل محصلة الصراع بين الجانبين صفراً، ما يسمح لشعاع التدخل الخارجي باقتحام سورية بأقل التكاليف الممكنة..  

ما العمل؟

يستلزم الخروج من الأزمة الحالية والتصدي للتدخل الخارج بأشكاله المختلفة والعسكري منها على وجه الخصوص، تجميع أصحاب المصلحة في مواجهة التدخلات الخارجية وأصحاب المصلحة في إصلاح جذري شامل يضرب الفساد ويعيد توزيع الثروة بين الناهبين والمنهوبين ويخلق الظروف السياسية التي تسمح بتعزيز حضور القوى النظيفة الحاملة لهموم الناس والمدافعة عن مصالحها.. وبالملموس فإن المطلوب هو:

الحماية المتبادلة بين الحركة الشعبية والجيش لأن لكليهما مصلحة واحدة هي مصلحة سورية ومصلحة الشعب السوري، ولإحداث هذا التقارب فإن على الحركة الشعبية والقوى السياسية التي تدعي تأييدها العمل الجاد على نفي كل الشعارات الطائفية والشعارات المستغيثة بالخارج عربياً كان أم أعجمياً، والعمل على إدخال الشعارات الوطنية العامة والاقتصادية- الاجتماعية الجامعة..، ونفي المسلحين وعزلهم والاستمرار بحركة سلمية بالكامل..

وبالمقابل فإن على القوى النظيفة في النظام ونقصد بها تلك القوى المتضررة من توزيع الثروة القائم، ولكنها تنسب نفسها إلى النظام لعدم اقتناعها بالحركة الشعبية أو لأن أحداً عمل على شد عصبها الطائفي أو لخوفها الطبيعي والمشروع من احتمالات التدخل الخارجي أو لأسباب أخرى متعددة.. عليها أن تتخذ موقفاً واضحاً ضد قمع الحركة الذي تنفذه ميليشيات خاصة طائفية بطبيعتها العميقة، لما يحمله هذا الأمر من مخاطر على البلد بأكملها، ولأنه يعزز من احتمالات التدخل العسكري الخارجي. وعليها أن تطالب بعدم توريط الجيش في قمع الاحتجاجات، لأن ذلك كفيل مع الزمن بشق صفوفه، وهو - أي الجيش- الضامن الوحيد لبقاء جهاز الدولة السوري بغض النظر عن بقاء النظام أو رحيله، ولذا لا يجوز شق صفوف المؤسسة العسكرية بأي شكل من الأشكال، وينبغي عليها وعلى الجيش المطالبة بالسير بالحوار الوطني الجاد بأسرع وقت ممكن لأنه المخرج الآمن الوحيد، وربما هو المخرج الوحيد ولا مخرج غيره، ويجب عدم التذرع باستمرار المظاهرات لتأجيل الحوار الوطني، على أن يكون الحوار متلفزاً وأن تشترك فيه الحركة الشعبية كطرف أساسي..

سورية في خطر.. والمنابر المختلفة مفتوحة بالطول والعرض لمدعي الوطنية، ودرجة التشويش عالية جداً.. أنقذوا سورية ولا يغتر أي فريق بضخامة عضلاته، فتنفيسها من الخارج أسهل مما يتخيل طالما هي عضلاته وليست عضلات سورية..