عناوين من الأزمة السورية
يتضمن المشهد السوري حتى الآن عنوانين رئيسيين: الأول هو حراك شعبي متصاعد، والثاني معالجات متنوعة توصف بالإصلاحية..
يوسم الحراك الشعبي بالبطء، وقد تكون هذه الصفة خاصة بسورية، والتي تتميز عن غيرها تاريخيا بأن التغيرات الكمية تطول حتى تعطي حالة نوعية جديدة، وهذا ما لمسناه سابقا بجمود الحراك السياسي فيها طيلة 40 عاما، وعدنا لنلمسه في حراكها الشعبي الذي تجاوز الـ110 أيام. يبدو أن البطء في الحراك ظاهرة موضوعية لها العديد من الأسباب من بينها الغياب الطويل للحركة السياسية بسبب هيمنة الدكتاتوريات، واستفحال الأزمة الرأسمالية وغموض مصيرها. أسهمت هذه السمة -على رغم من أنها حالة غير حاسمة وغير مرضية لكثير من الأطراف- بإنضاج الحراك الشعبي، حيث يلاحظ اليوم تطور العديد من الشعارات المرفوعة. وهنا ليس المقصود شعار (إسقاط النظام)، والذي لايزال الجدل حوله قائماً بين مختلف الأطراف، ويعتبره الكثير من الناس تعبيرا غاضبا جاء كردة فعل على سلوك العنف الذي مورس خلال الفترات السابقة، بل المقصود هو قيام الكثير من الضالعين بالحراك باستبعاد الشعارات الطائفية والفئوية والتي كثيرا ما سمعناها سابقا، وعلى الرغم من الاستمرار في ترديد بعضها بمناطق مختلفة، إلا أن عددا من الشعارات الجامعة بات يرفع بشكل أكبر من ذي قبل «لا للفساد، لا للعنف، نعم للوحدة الوطنية، (إيد) واحدة»..
يضاف إلى ذلك ما قام به جزء كبير من أفراد الحراك في الشارع، حيث عمدوا إلى عزل الكثير من الممارسات المشبوهة، وخاصة تلك الجهات التي مازالت تسعى إلى رفع السلاح مختبئة وراء حراك الشارع السلمي.
ترفض الكتلة الأساسية من الحراك الشعبي كل مساعي التدخل الخارجي، والتي تسعى إليها الكثير من الأصوات المشبوهة المختبئة في حراك الناس، وخاصة تلك الأصوات العازفة في جوقة ما بات يعرف بـ«المعارضة الخارجية»، وربما هذا ما يفسر الهجوم الذي شنه المتحدثون باسم الحراك من واشنطن!! حيث قاموا بالهجوم على اجتماع سميراميس الأول، ورفضوا كل ما أفرزه لمجرد حديث عادي برفض التدخل الخارجي على الأرجح..
ينسى كل هؤلاء أن المقاومة المزروعة في وجدان الشعب السوري تاريخيا ستنبت نموذجها الوطني في التغيير بعيدا عن كل الأصوات المشبوهة.. يبقى الشكل الأهم والأرقى ذلك العمق المعنوي لحضور الجيش في وجدان الشعب السوري، فعلى الرغم من كل المحاولات المشبوهة الرامية إلى تشويه صورة الجيش السوري في عيون أبناء الوطن، إلا أن الحراك الشعبي استطاع أن يعمق اللحمة مابين الجيش والشعب رغما عن كل الظروف والأخطاء المرتكبة بحق الاثنين معا..
تبقى العديد من الأمور رغم كل ذلك قيد الإنضاج، ربما تتطلب هذه الأمور حالة نوعية جديدة تغير مسير الحراك إلى عمقه المطلوب، فالملاحظ حتى اللحظة غياب واضح لحراك الشارع في قلب المدن الكبرى (دمشق- حلب)..
تأتي أهمية اشتراك سكان المدن في هذا الحراك من بنيتها الاجتماعية التي يغلب عليها البنى الأكثر جذرية، مع وجود الطبقة العاملة بشتى فئاتها، وإن ولوجها بشكل أكثر فاعلية في الحراك يسهم بتصحيح الفرز داخل النظام والمعارضة وداخل الحراك نفسه، فهذه القوى تمتاز بقدرة أعلى على التنظيم وفاعلية أكبر في ميزان القوى الحالي بالإضافة إلى قدرتها على تشكيل قيادة حقيقية ومركزية للحراك في المناطق الأخرى..
المعالجات الإصلاحية
حتى اللحظة، لم تستطع كل الإجراءات الإصلاحية الملموسة وغير الملموسة، خلق مناخ الثقة الضروري بين النظام والحراك الشعبي. إعلاميا ظل الخطاب الرسمي قاصرا عن إيصال الجزء الأكبر من الحقيقة مما سمح لإعلام البترو دولار أن يمعن في صياغة الرؤية الأساسية للكثير من الأفراد، ويضاف إلى ذلك تغيب الكثير من القيادات العليا والتي من المفترض أن تتعامل مع الأزمة باستنفار إعلامي أعلى من الحالي بكثير، فعدا بعض الخطابات التي أدلى بها رئيس الجمهورية وبعض المؤتمرات الصحفية لوزير الخارجية لم نسمع ما يشعر الناس بعمق أزمتهم، والتي تتصاعد في قنوات إعلام البترودولار، ناهيك عن الأخطاء القاتلة والمضحكة بالوقت نفسه لفضائية الدنيا والفضائية السورية والتي صارت جزءا يوميا من الأزمة...
يكمن أحد وجوه الأزمة الحالية في عدم وجود إجراءات اسعافية على مستوى الأزمة، فالإجراءات الإصلاحية في المجال الديمقراطي السياسي تتصف بأنها ذات تأثير على المدى الطويل في أحسن الحالات، ولكن المواطن البسيط يتطلع دوما إلى ما هو حاسم وسريع وملموس، فعلى سبيل المثال كان من الضروري اليوم إلقاء القبض على وجوه فاسدة أوغلت دائما في اللعب بأمن الدولة وأمن الشعب، فمكافحة الفساد على المدى الطويل ممكنة من خلال المؤسسات، لكن في اللحظة الحالية، ونحن نعيش عجزا كليا بهذه المؤسسات، نحتاج إلى إجراء حاسم وهو ممكن وضروري من جانب النظام ليثبت حسن النية في هذا المجال، لا بل إن هذا الإجراء يزيد من رشاقة النظام من أجل المضي قدما في إجراءات الإصلاح الأعمق والأشمل، فمن المعروف أن الفساد هو أول الممانعين للإصلاح لأنه أكبر المتضررين منه، ويبقى المشهد الأكثر إيلاما والأكثر عصفا بأذهان الناس هو تلك المعالجات الأمنية، والتي ما زالت تشط وتمط في هذه «المعالجة»...
يزداد الأمر تعقيدا عندما يسعى البعض إلى خلق شارع مضاد للحراك الشعبي المعارض، ليفرز شارعا آخر مؤيدا، يتواجد بالشعارات والكم والأماكن المختلفة. يظن أصحاب هذه الفكرة أن الأزمة الحالية هي تعبير عن شارعين متناقضين وأن الكم الأكبر هو المنتصر! يبدو أن هذا المنطق أكثر تأثرا برؤية الجزيرة عن الرأي والرأي الآخر أو فكرة الديمقراطية الغربية المبنية على الأكثرية، متناسيا كل الظروف السابقة التي أنتجت حالة من الاحتقان وحالة من الاصطفاف، يريد البعض لها أن تظهر على شكل ثنائية (معارضة - نظام) أحيانا، وأحياناً أخرى (نظام – شعب). لا يعي هذا المنطق أن الوضع الحالي هو تعبير عن أزمة كل سورية (نظام- شعب- معارضة)، وأن الاصطفاف المؤقت ليس إلا اصطفافا وهميا أو شكليا، بينما يتبلور الوضع الصحي في الوصول إلى اصطفافات حقيقية واضحة تبنى على مصالح الجماهير وكل القوى الوطنية في النظام والمعارضة والشعب...
سمة الوضع الراهن
تقف كل عناوين المشهد السابق عند عنوان اللاحسم، مما يؤكد ضرورة إنتاج حل عملي للخروج من الأزمة السابقة، وهنا ينبغي على كل القوى الوطنية الحقيقية للمجتمع وفي كل الأطراف، السعي إلى إنتاج تلك الصيغة العملية الرامية إلى إفراز حل حاسم لهذه الأزمة. فالآجال الزمنية الطويلة قد تضيف قضايا إيجابية في بعض الأحيان، ولكن وبعد حد معين وفي ظروف معقدة كظروف الوضع في سورية، فإن الاستفاضة في الوقت أمر فيه الكثير من المخاطر، خاصة إذا ما استشعرنا ما يحاك ضد المقاومة في لبنان.
هنا تتأتى ضرورة الحوار الوطني والذي يمثل أنضج الحلول العملية حتى الآن، فعلى الرغم من كل الظروف التي يمكن تجاوزها إذا ما لحظنا إمكانيات نجاح الحوار، علينا أن نذكر أن أي حوار يحتاج إلى مناخ ايجابي، وهذا المناخ يمكن تأمينه من خلال المعالجات السريعة والحاسمة، وأهمها إيقاف الإجراءات الأمنية غير المبررة، بالإضافة إلى استبعاد لهجة الخارج في خطاب العديد من القوى والتي لم تسعفنا حتى اللحظة بأية حلول عملية، فهي تقوم بالاختباء خلف شعار إسقاط النظام الذي يرفعه المحتجون، متناسين مهماتهم كقوى سياسية تفرض عليها مسؤولياتها الوطنية صياغة حل عملي فاعل لا ردة فعل يقدسونها باسم الحراك الشعبي كما يحلو لغاياتهم الخبيثة. المطلوب من هذا الحل أن يخرجنا من الأزمة الحالية بأقل التكاليف، وأن يستأصل الشروخ الاجتماعية التي لم يعد أحد ينكر وجودها، ويقطع الطريق على كل تدخلات الخارج ويؤمن كرامة المواطن، ويوصل سورية إلى محور المقاومة، دولة قوية بشعبها، لتمارس دورها على أكمل وجه في عملية المقاومة محصنة بشعبها الحر الأبي..