ما بعد اللقاء التشاوري..
ثمة ما يشبه الإجماع اليوم على أن الطريقة المتبعة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع منذ عقود استنفدت دورها التاريخي، ولأن الأمر كذلك، فإنه من المنطقي البحث عن آليات للخروج من ألازمة الوطنية الراهنة التي هي نتاج قديم عاجز، وجديد يأخذ شكل حركة شعبية مشروعة تتنازع عليه جهات عديدة بما فيها قوى معادية للمصالح الوطنية العليا.
وإن كان الجميع يؤكد على أهمية الحوار من حيث المبدأ, إلا أنه ثمة اختلاف واضح حول القضايا التي يتم الحوار حولها, وطريقة إدارة الحوار ومهمته, فهناك من يرى أن النظام فقد كل مبررات وجوده، والحوار يجب أن يقتصر على آليات انتقال السلطة, ورأي آخر يرى ضرورة حسم الموضوع من خلال الحوار نفسه, ولاشك إنه ثمة من يرى في الحوار محطة لإجراء بعض الترقيعات والحلول الجزئية وكفى الله المؤمنين شر القتال.
يعتبر اللقاء التشاوري التحضيري بحد ذاته تطوراً إيجابياً، وتعبيراً عن مزاج جديد بالتعاطي مع الحركة الشعبية، والحوار هو ابن شرعي للحركة الشعبية المتصاعدة، وأية محاولة، من أية جهة كانت، لوضع أحدهما في تناقض مع الآخر أمر مرفوض، ومن هنا فإن دعوات البعض بإيقاف التظاهر بعد البدء بالحوار هو نسف للحوار نفسه، وعودة إلى المربع الأول ، و لاسيما أن مشروع البيان الختامي الأول الهزيل، وإيقاف البث المباشر بغض النظر عن الجهة التي تقف خلفه، ألقى ظلالاً من الشك على جدية النظام السياسي في الوصول باللقاء التشاوري إلى نهايته المنطقية.
إذا كانت مقاطعة المعارضة المشبوهة مفهومة، كونها لا تملك تواجداً فعلياً على الأرض، وتحاول فرض نفسها على الحراك عبر قوة الضخ الإعلامي، ومؤتمرات الخارج والتباكي على الدم السوري وتقزيم المشكلة إلى قضية أخلاقية (كيف نحاور وهناك معتقلون والدبابات تحاصر المدن..........)، إذا كان كل ذلك مفهوماً، فإن عدم مشاركة بعض قوى المعارضة الوطنية قولا وفعلا، والتي تمارس النضال على الأرض، نعتقد أنه خطأ استراتيجي في ظل توازن القوى الجديد الذي نجد ملامحه الأولى على خلفية عملية الفرز الجارية ضمن المجتمع وجهاز الدولة, لاسيما وأنه بات مكشوفاً أن هناك من يريد تمييع الحركة الشعبية وحرفها عن مسارها، سواء بإعطائها شكلاً طائفياً، أو تجييرها من جانب الإدارة الأمريكية وملحقاتها لفرض شروطها السياسية على النظام في الملفات الإقليمية، فالمشاركة في الحوار ليس إنقاذاً للنظام كما يزعم البعض، بل هو مسعى لإيجاد المعادل السياسي للحركة الشعبية الذي من الضروري أن يعطيها زخماً نوعياً وكمياً، ومن هنا فأن جملة الشروط التي وضعت هي أشبه بمن يهرب إلى الأمام ، وهذه الشروط في حال تحقيقها فلا داعي للحوار أصلا، لأن تنفيذ هذه الشروط هي مهمة الحوار أصلا.
وكما أثبتت الوقائع عقم الحل القمعي، الذي هيأ المناخ لمحاولات التدخل الخارجي بما يهدد كامل البنية الوطنية السورية، فإن الاستنكاف عن الحوار أو تعطيله من الممكن أن يعزز مكانة القوى المتطرفة هنا وهناك، ويقود البلاد إلى المجهول، ويؤدي إلى النتيجة نفسها.
إن الظرف التاريخي الراهن يحتم على الجميع التحلي بروح المسؤولية الوطنية، والشرط الأول لذلك هو فهم حقيقي للواقع السوري بأبعاده المتعددة، وهذا يتطلب ولو للحظة واحدة، عدم نسيان أن الجغرافيا السياسية فرضت على هذه البلاد أن تكون في قلب معركة وطنية بغض النظر عن الموقف من النظام الحاكم، ويتطلب في الوقت نفسه إدراك أن عقلية الاستعلاء على المواطن وانتهاك كرامته، وإراقة دمه، أصبح في حكم الماضي، وأن طاحونة النهب يجب أن تكف عن الدوران.