وحدة الأرض السورية.. والمرسوم (49)..
ن يطول الأمر بالسوريين كثيراً، قبل أن يبدؤوا قيادةً وشعباً ومؤسسات، باكتشاف السوءات الفظيعة والأخطاء الاستراتيجية الكبرى التي ارتكبها الفريق الاقتصادي الحكومي بحق سورية، أرضاً وبشراً وثروات، عمداً أو جهلاً أو تعامياً..
ولكن حتماً، سيمرُّ وقت طويل، وسيُبذَل جهدٌ مضن وعظيم، قبل أن تستطيع البلاد وقواها النظيفة ترميم وتصحيح واستدراك هذه الأخطاء الفادحة، إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً..
هل هي مجرد مفارقة مدهشة وحسب، أن تتهدد سورية الأخطار والمطامع من كل حدب وصوب، في مرحلة حساسة من تاريخ العالم والمنطقة، وفي الوقت نفسه أن تبتلي في أتون هذه الظروف الخاصة بأسوأ طاقم اقتصادي عبر تاريخها الحديث، وربما القديم؟ إن هذا السؤال لم يعد بطراً أو لغواً صحفياً، بقدر ما أصبح هماً وطنياً واجتماعياً – اقتصادياً، وحتى ديمقراطياً بكل المعاني، والإجابة عليه هي فصل المقال والسجال لتحديد كل جوانب الهجمة العدوانية، وكل ملامح العدو..
فمع هيمنة وطغيان السياسات الليبرالية التي اتبعها الفريق الاقتصادي في الحكومة على كل مفاصل الاقتصاد الوطني، أصبح كل شيء في البلاد قابلاً للبيع والشراء، وعمت الفوضى في أرجائها، وتم تحت عناوين النمو والحداثة والعصرنة واللحاق بركب العالم المتطور، ليس فقط تحرير التجارة وفتح الحدود والأسواق أمام السلع والاستثمارات، بل تعبيد الطريق أمام الأفكار المشبوهة والسلوكيات الخطرة التي تهدد وحدة البلاد، وبدأ توافد مستثمرين عرب وأجانب، يستثمرون في كل شيء عدا الاقتصاد الحقيقي، وجرى منحهم ما يشاؤون من تسهيلات، توّجت بحصولهم على حق تملُّك ما يشاؤون من أراض وعقارات، وهنا كانت الطامة الكبرى، حيث ولّد ذلك خطراً حقيقياً تجاوز تهديده كل الثروات الوطنية، ليطال أحد أبرز دعائم الدولة المستقلة وهي: الأرض!.
إذ شنّ المستثمرون هجوماً كاسحاً على الأراضي والعقارات، مما أدى إلى ارتفاع أثمانها بشكل كبير، وهو ما ولّد فقاعة عقارية خطيرة للغاية، تسببت بخلل كبير في الاقتصاد السوري، خصوصاً في إحداث فرق شاسع بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية لصالح الأولى، الأمر الذي أدى لتضخم غير مسبوق.
في هذه الخارطة المعقدة ولد المرسوم (49) في أيلول الماضي، دون أن نعلم ظروف ولادته على وجه اليقين، لكنه يتضمن شروطاً قاسية جداً على عمليات بيع واستثمار الأراضي والعقارات في المناطق الحدودية، والذي خلق بسبب الثغرات الفاقعة الموجودة فيه، ردود أفعال مختلفة بين الناس عموماً، وبين سكان القرى والمناطق والمدن الحدودية بشكل خاص، وهناك شرائح عديدة من المجتمع السوري عدّته موجّهاً ضدها دون سواها، على اعتبار أن جميع مصالحها تضررت أو تعطلت بسببه.
المرسوم المذكور وضع شروطاً غايةً في الصعوبة على جميع عمليات البيع والشراء واستثمار الأراضي في المناطق الحدودية، لكن متى؟ بعد أن «وقع الفاس بالراس» كما يقال، ولم يتضرر منه إلا المواطنون..
فالمستثمرون المشبوهون (عرباً وأجانب)، كانوا قد أحكموا سيطرتهم ليس على الأراضي التي يمكن أن تصنف أنها ذات مستقبل سياحي، أو ذات مردود زراعي عال، بل إنهم بسطوا أذرعهم حتى على القفار المجدبة والجبال الشاهقة والأودية السحيقة، ولم تسلم منهم حتى المناطق الرعوية، وهو أمر ربما يكون أحد أسباب ولادة المرسوم، ونرجو ألا تكون الولادة قد تمت بعد فوات الأوان..
فحسب مصادر مطلعة، تمّ تسجيل حصول أكثر من خمسمئة عملية شراء واستثمار مشبوهة على أيدي مواطنين عرب، يبدو أن لقسم كبير منهم علاقات مع رجال أعمال إسرائيليين.
ففي محافظة القنيطرة تم تسجيل عمليات واسعة لبيع الأراضي اشتراها هؤلاء في مناطق (عرنة، وخان أرنبة، وقلعة جندل)، وهي تقع على الحدود تماماً مع الأراضي السورية التي يحتلها الكيان الصهيوني في الجولان.
وفي ريف دمشق سجلت أكبر عمليات البيع في مناطق (صيدنايا، معلولا، سرغايا) وتقدر الأراضي المبيعة بخمسة آلاف دونم.
وفي ريف حمص تم شراء مساحات كبيرة في القصير وجوسية والدردرية والعريضة لصالح خليجيين أيضاً، قسم كبير منهم من قطر.
وفي درعا والسويداء وهما يشكلان الحدود مع الأردن، سُجّلت عمليات شراء لأراض زراعية وأخرى خاصة بالبناء تتجاوز مساحتها الإجمالية ألفي دونم، تبين أن خمسة على الأقل ممن اشتروها شركاء لرجال أعمال إسرائيليين يستثمرون في منطقة الاستثمار الأردني ـ الإسرائيلي المشترك في مدينة إربد..
وفي اللاذقية وإدلب وريف حلب والحسكة لاتختلف الحال كثيراً، فكل من اشترى أرضاً واسعة على مثلث الحدود، هناك شكوك بعلاقاته مع جهات معادية.
وهكذا يمكن معرفة ما يختبئ خلف الأكمة، فالغاية ببساطة جعل الحدود السورية بأكملها ملكاً لغير السوريين!
إن القانون (49) قد ألحق الضرر بالكثير من المواطنين السوريين دون استثناء، لأنه لم يفرق بين عمليات بيع تجري بين السوريين فيما بينهم، وبين السوريين والأجانب، كما أنه لم يفرق بين صفقات صغيرة لدونم أو دونمين، أو عقار أو عقارين، وبين صفقات كبيرة لبيع مئات وآلاف الدونمات، وهذا هو خطؤه الذي يجب أن يُصحّح، وأول مَنْ يجب محاسبته على التفريط بالأراضي السورية هو الفريق الاقتصادي الذي أوجد كل المناخات والمبررات والتشريعات لفتح حدودنا للطامعين بها، وفي هذه المحاسبة ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..