الافتتاحية كيف تكون الزيادة مجزية؟
يقولون إن زيادة الأجور الموعودة ستكون «مجزية»، فماذا تعني كلمة «مجزية» في ظروفنا الملموسة الحالية؟
حتى تكون الزيادة «مجزية» فهي يجب أن ترتبط بأحد الاحتمالات التالية:
ـ أن تعوض على الأقل ارتفاعات الأسعار التي حدثت في العامين الماضيين والتي وصل وسطي تأثيرها على سلة استهلاك المواطن إلى حدود 70 % من مستوى أسعار أوائل 2006.
ـ وهذا يعني في هذه الحالة أن الزيادة في الأجور يجب أن تكون على الأقل 70 % على الأجور الراهنة، وحينها ستكون زيادة عادية وكي تصبح «مجزية» يجب أن تكون أكثر من ذلك.
ـ ولكن الزيادة الموعودة مرتبطة بالرفع الجزئي للدعم عن المحروقات ولا يعلم أحد حتى الآن، كم ستكون «هبة» الأسعار في السوق بعد وقوع الواقعة، وفريقنا الاقتصادي يتوقع أن تكون الزيادات اللاحقة أقل من 25 % بالنسبة لمستوى الأسعار الحالي، لذلك هو يعتبر زيادة 25 % زيادةً مجزية.. ولكن التجربة ستكون معيار الحقيقة وسنرى كم ستزداد الأسعار في الشهر الأول الذي سيلي الرفع الجزئي للدعم، لأن المواطن العادي إن كان سيحصل على 1000 لتر مازوت سنوياً بالسعر المدعوم، فإنه سيدفع فروقات أسعار النقل والإنتاج الزراعي والصناعي التي ستتأثر حتماً بهذه العملية. لذلك فإن للحديث صلة بهذه النقطة بعدما سيصبح واضحاً حجم الزيادة اللاحقة بالأسعار، ولكن الأكيد أن الأمر المشكوك فيه جداً، أن تكون الزيادات المتوقعة على أسعار سلة الاستهلاك بحدود 25 % فقط من أسعارها اليوم.
ـ والاحتمال الأبعد، أن يكون المقصود بالزيادة الـ«مجزية»، إزالة الهوة بين مستوى الأجور ومستوى المعيشة الذي سيتطلب حسب كل الدراسات المطروحة حوالي 24000 ل.س للأسرة السورية كحد أدنى لمستوى المعيشة، مما سيتطلب زيادة الأجور ليس بنسب مئوية، بل بمضاعفات تصل إلى أربعة أضعاف مستوى الأجور الحالية...
لذلك يمكن الحديث بكل ثقة منذ الآن عن عجز الحكومة بفريقها الاقتصادي في معالجة تداعيات ارتفاع الأسعار، لأن التداعيات هي نتائج لا معنى لمواجهتها دون معالجة الأسباب الحقيقية للمشكلة..
لذلك دعونا نعترف أولاً بأن مشكلة ارتفاع الأسعار لم تعد مشكلة طارئة وعابرة ومؤقتة، بل أصبحت مشكلة مستمرة ومستوطنة وحقيقية، وهي تختلف في هذه النقطة بالذات عما سبقها من ارتفاعات قبل الموجة الأخيرة المستمرة منذ أكثر من سنتين. وهذا مؤشر جدي على أن المشكلة أصبحت عضوية في حين كانت سابقاً وظيفية يمكن «ترقيعها» بهذا الشكل أو ذاك. أما الحلول الترقيعية اليوم فهي لن تزيد الطين إلا بلاً..
ولمعرفة أسباب هذه المشكلة العضوية المستوطنة يجب البحث عن ذلك بشكل موضوعي هادئ.
ـ فالقول إن السبب خارجي ومرتبط بارتفاع الأسعار العالمي هو تبرير لجزء من ارتفاعات الأسعار الحالية، وتأثير السبب الخارجي لا يتعدى 20- 30 % من كل الارتفاعات التي جرت... والدليل هو اقتصادات دول أخرى تتأثر فقط بارتفاع الأسعار العالمي لم يصل الحد الأقصى لارتفاع الأسعار فيها في العام الأخير إلى أكثر من 15- 20% من مستوى الأسعار السابق. والأمر العجيب الآخر بالنسبة لهذا التبرير أنه ينسى أننا مصدّرون لمواد خام هامة ارتفعت أسعارها في السوق العالمية ويجب أن ينعكس ذلك إيجابياً علينا مُحيِّداً ولو جزءاً من ارتفاعات أسعار استيراد مواد أخرى..
لذلك، فالقول إن سبب الارتفاعات خارجي، هو هروب من الحقيقة، وإصرار على عدم معالجة الأسباب الداخلية..
وهذه الأسباب الأخيرة إذا انتقلنا إلى بحثها لوجدنا أنها مسؤولة عن أكثر من 70 % من الارتفاع العام للأسعار، وهي من نوعين فقط لا غير: عفوي ومقصود، والأمران أحلاهما مر، فالعفوي سببه الجهل والتقصير والإهمال، والمقصود سببه التخريب المرتبط بمصالح فئات محددة في جهاز الدولة وخارجه.. وهناك أسباب يحتار المرء في تصنيفها بين العفوي والمقصود، فمثلاً انسحاب الدولة الحاد من السوق إنتاجاً وتوزيعاً، وبالتالي تخطيطاً ومراقبة أَهو سبب عفوي أم مقصود؟ وفي كل الأحوال تبقى نتائجه الملموسة واحدة..
ولكن الأكيد أن هناك جهات هامة بانصياعها لوصفات المراكز الدولية المختلفة تقوم بشكل ممنهج ومقصود بإضعاف مقومات ممانعة وصمود سورية أمام المخططات الأمريكية- الصهيونية وهي بسلوكها إن كانت تلبي مصالح شرائح ضيقة جداً في المجتمع السوري على أمل أن تقوم هذه الأخيرة بدور الرافعة للاستثمارات الخارجية، إلا أنها تتجه ضد مصالح الغالبية العظمى من الشعب السوري الذي تجري عملية إفقار شاملة له لإنهاكه على أمل إجباره على الركوع..
إن المشكلة العضوية، تتطلب معالجة عضوية أي عميقة وجذرية وشاملة والخلل العميق يكمن في العلاقة العامة بين تناسب الأجور والأرباح التي أصبح الوضع يتطلب إحداث انعطاف جذري فيها لا يضمنه إلا ضرب مراكز الفساد والنهب وعودة الدولة لممارسة دور تنموي حقيقي منفتح على المجتمع وتحت رقابته، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن...