الافتتاحية: مأزق الليبرالية السورية
القرار الاقتصادي في سورية موضوع نقاش حاد في المجتمع بمختلف أطيافه، أما الأشكال التنفيذية لهذا القرار فهي موضع نقاش أكثر حدة، وأسطع مثال على ذلك هو قرار المؤتمر القطري الأخير لحزب البعث العربي الاشتراكي حول اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يأخذ أشكالاً تنفيذية على يد الفريق الاقتصادي من الحكومة لم تخطر على بال الأكثرية الساحقة لواضعي هذا القرار... فهي تنحو عملياً باتجاه معاكس له في أكثر الأحوال، الأمر الذي يلاقي مقاومة كبيرة من أوساط واسعة في النظام نفسه ومن الأكثرية الساحقة من المجتمع، ومع ذلك فالمحصلة نتيجة كل ذلك، هي أشكال تنفيذية نهائية لا تتطابق مع الأشكال الأولية المقترحة، ولو جاءت في نهاية المطاف بأشكال مخففة عن النسخة الأولية المقترحة من الفريق الاقتصادي.. ولكن هذه الأشكال النهائية للتنفيذ تسبب استياءً في المجتمع فما أدراك لو نفذت بأشكالها الأولية الفجة المقترحة؟!..
إن هذه العملية المعقّدة هي تعبير عن المأزق الحقيقي الذي تعاني منه الليبرالية السورية فكراً وتنفيذاً، فمن جهة نتائجها لا تتناسب مع الجهد الكبير الذي تبذله لتمرير سياستها، ومن جهة أخرى لا تلاقي هذه السياسات أي تأييد شعبي يذكر، بل على العكس، فإنها تساهم في تعقيد الوضع الاقتصادي وزيادة الاحتقان الاجتماعي، والأمثلة على ذلك كثيرة، من رفع الدعم عن المحروقات، إلى محاولات التعديل الجذرية لقانون العمل، وصولاً إلى المحاولات البائسة الفاشلة حتى الآن لتعديل سعر صرف الليرة السورية، من أجل الوصول إلى الهدف غير المعلن ألا وهو تعويمها..
فأين هي مشكلات الليبرالية السورية التي لم تستطع حتى الآن تنفيذ برنامجها بكامل حجمه وضمن الأطر الزمنية التي كانت تتصورها؟
المشكلة الأولى: هي في المناخ العالمي الجديد الذي سببته الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية، وفي دلالاته العميقة حول فشل الفكر الليبرالي العالمي، وفي هزيمة جميع الحلول التي اقترحها في العقود الماضية، ولو جاء الهجوم الليبرالي السوري قبل عقد أو عقدين لكانت حظوظه في النجاح أكبر بكثير، ولكن حظوظه اليوم أقل، وستكون غداً معدومة نهائياً، خاصةً مع تفاقم الأزمة العالمية التي ما هي إلا تعبير عن فشل وانهيار هذا الفكر وهذا التوجه... وإذا أخذنا بعين الاعتبار انعكاسات هذه الأزمة على اقتصادنا لاحقاً، فيمكن أن نتوقع ازدياد المقاومة المجتمعية لهذا التيار.
المشكلة الثانية: وهي مرتبطة بالخصوصية التي تفرض على سورية صراعاً دائماً مع المخططات الأمريكية الصهيونية بالمعنى السياسي، ما يضع فوراً جميع المخططات الليبرالية وأصحابها موضع شبهة في القضية الوطنية من وجهة نظر أوساط واسعة جداً من المجتمع السوري، وهذا لا يسمح لجهاز الدولة بالتعامل بخفة وتساهل مع أطروحات كهذه حتى لو أصغى إليها، آخذاً بعين الاعتبار احتمال تأثير هذه السياسات على دور الدولة الذي إن تراجع إلى حدود حرجة اقتصادياً، فسيكون له تبعاته السياسية البعيدة المدى على القضية الوطنية نفسها..
المشكلة الثالثة الأكثر تعقيداً واستعصاءً من جميع المشكلات الأخرى، وهي عدم وجود معادل سياسي منظم وعلني للتيار الليبرالي اقتصادياً، وإن كان يسعى لإيجاده دائماً، وهو إن مارس بعض التأثير على بعض النخب في النظام، إلا أنها ليست في وضع يسمح لها - بسبب تعقيدات الوضع في سورية - أن تصبح ممثلةً رسميةً لهذا التيار... ومع ذلك فهو لا يكف البحث عن هذا المعادل السياسي، لذلك فإنه يبحث جدياً في إمكانية إحداث تعديلات جدية في الفضاء السياسي السوري، ليس باتجاه إطلاق الحريات السياسية للجماهير التي لا مصلحة لها في الليبرالية الاقتصادية والتي لن تدعمها في كل الأحوال، وإنما في استدراج بعض القوى المشبوهة التي تمثل برامجها تاريخياً معادلاً سياسياً لليبرالية السورية، استدراجها إلى مصالحات غطاؤها تخفيف الضغط عن النظام في الظروف المعقدة التي تعيشها المنطقة، وجوهرها إحداث تغيير بنيوي عميق في الفضاء السياسي لصالح هذه القوى، متسلحة بالنموذج التركي كسابقة يمكن تكرارها..
وخلاصة القول، إذا كان الانفراج السياسي في البلاد مطلوباً دائماً، إلا أن جوهره ومساره يجب أن يبقيا ضمانة لاستمرار موقف الممانعة السوري المستقل المستند إلى الثوابت الوطنية، لذلك فإن أي حل يضمن استمرارية الموقف السوري المستند إلى ثوابته المعروفة يجب أن يستند إلى إرضاء الجماهير الشعبية الواسعة ومصالحها، وليس إلى إرضاء حفنة قليلة من رجال الأعمال المرتبطين بالرأسمال العالمي ومصالحه، وغير القادرين بكل الأحوال على تأمين لا النمو المطلوب، ولا العدالة الاجتماعية بحدودها الدنيا، ولا الاستثمارات الخارجية الموعودة التي لم ولن تأتي إلا على حساب قضيتنا الوطنية.
إن أخذ كل ذلك بعين الاعتبار هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن...