الافتتاحية مصلحة من يخدم القرار الاقتصادي فعلياً؟!
يشرف الملف الذي فتحته «قاسيون»: (كيف يصنع القرار الاقتصادي في سورية؟) على الانتهاء، وقد شارك في إبداء الرأي فيه مجموعة واسعة من الباحثين والمهتمين من مختلف الاتجاهات. وكان الهدف من طرح هذا السؤال محاولة استكشاف سبب المفارقة بين الأهداف المعلنة للقرار الاقتصادي وبين النتائج الملموسة التطبيقية التي أتت عكس هذه الأهداف على طول الخط..
فالأهداف المعلنة؛ من ضرورة رفع وتائر النمو إلى مكافحة الفقر والبطالة أتت عملياً بنتائج معاكسة، فالنمو المطلوب وخاصةً في قطاعات الاقتصاد الحقيقي، كان فعلياً أقل بكثير من أرقام النمو العامة المعلنة، بل حتى يمكن القول إنها كانت سالبةً. أما الفقر فقد توسعت دائرته من خلال التناقض المستفحل باضطراد بين مستوى الأسعار المتسارع بالتصاعد وبين مستوى الأجور الثابت نسبياً، مما أدى واقعياً إلى انخفاض عام في مستوى معيشة أصحاب الدخل المحدود.. أما البطالة فإن وتيرتها لم تخف رغم الأرقام الضخمة المعلنة عن حجم الاستثمارات الموظفة في الاقتصاد الوطني..
والأمر هكذا، يصبح مشروعاً طرح سؤال: مصلحة من يخدم القرار الاقتصادي المنفذ فعلياً؟! هل خدم الأكثرية الساحقة من المجتمع، أم أقلية مستفيدة من أصحاب الرساميل والأعمال؟!..
نعتقد أن الجواب واضح مسبقاً، فما دام الخلل البنيوي بين الأجور والأرباح مستمراً على شكله السابق- بل إنه يسير نحو مزيد من التشوه- فإن المستفيد من القرارات المنفذة هم الأقلية الضئيلة في المجتمع- ولكي لا تستمر الحال هكذا، يجب وضع الأصبع على موضع الخلل بين ما هو معلن وما هو منفذ.
لاشك، أن القرار الاقتصادي العام الذي ركز منذ المؤتمر القطري العاشر على ضرورة تأمين النمو العالي مع الحفاظ على حدود مقبولة من العدالة الاجتماعية، كان صحيحاً، ولكن.. لماذا جاء التنفيذ بعكس الاتجاه المطلوب؟!.. الأمثلة على ذلك كثيرة وهذا بعضها:
ـ قرار «إعادة توزيع الدعم لمستحقيه»، والذي تمت صياغته المعلنة في بادئ الأمر على أساس تصحيح أسعار المحروقات مع استمرار دعم المستهلكين الأكثر حاجةً، وكذلك دعم الزراعة والصناعة، تحول عند التنفيذ النهائي إلى إلغاء الدعم كلياً، فتبخر دعم المستهلكين مؤخراً مع إلغاء فكرة قسائم المازوت ذات السعر المنخفض، ولم تجد فكرة إنشاء صناديق لدعم الزراعة والصناعة طريقها إلى التطبيق الفعلي، بل تحول المستهلك إلى داعم لأسعار المحروقات بدفعه سعراً أعلى من الكلفة بشوط كبير.
ـ أما قرار «إصلاح القطاع العام»، فعندما لم يؤخذ باقتراحات الفريق الاقتصادي من جهات تمثل المجتمع من مجلس الشعب إلى اتحاد نقابات العمال، تم وضعه في الدرج.. وتم الانتقال إلى شعار معالجة كل حالة بحالتها، والذي لم يؤدِّ فعلياً إلى أية معالجة في غياب التوظيفات الاستثمارية الفعلية في هذا المجال، وبغياب المعالجات البناءة التي يجب أن تبحث في أصل المشكلة وليس في فروعها المشتقة من الأصل.
ـ وفي مجال دور الدولة الاجتماعي الذي كان يجب ألاّ يتراجع- وخاصةً في مجال الصحة والتعليم اللذين حققت سورية فيهما إنجازات هامة خلال العقود الماضية، إلاّ أنه تراجع فعلياً في هذين المجالين على الأقل، فإذا أخذنا وحدة قياس حصة المواطن الواحد من هذه الخدمات في موازنات الدولة المتتالية- وليس الحجم العام المخصص لهما في الموازنات- يتضح أنه، وإن كان في ازدياد نسبي، إلاّ أنه أصبح لا يلبي حاجة تطوير دور الدولة الاجتماعي على الأقل في هذين الشقين الهامين..
والنتيجة.. إن موطن الخلل الحقيقي بين المعلن والمنفذ يكمن في جهاز الدولة التنفيذي الذي يحابي الأغنياء ويجافي الفقراء، والمشكلة تمتد من قمته إلى أسفله، فالفريق الاقتصادي الذي يمثل جزءاً هاماً وأساسياً وحاسماً في هذا الجهاز، كان يستند في سلوكه إلى «موضة» عالمية أثبتت اليوم فشلها وانهيارها.. وهذا السلوك سببه ليس فقط قصور معرفي، وإنما أيضاً مصلحة وعقلية طبقية محددة ترى في محاباة الأغنياء مدخلاً ومحركاً لحل المشكلات المنتصبة أمام الاقتصاد، والملفت أن كل ذلك يتم بالتزامن مع مساعي وتطلعات المشاريع والمخططات الإمبريالية الرامية لتقويض البلاد وتفتيتها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
واليوم، بالوقائع ومن خلال أمثلة الغير تبين أن الحلول التنفيذية التي ابتكروها هي المشكلة بحد ذاتها، فالآليات التنفيذية، في ظل احتمال وجود نوايا مضمرة لدى البعض، ابتعدت عن الأهداف المعلنة وشوهت محتواها، وأصبح المطلوب اليوم لصيانة وحماية مصالح البلاد في النمو ومصالح المجتمع في تأمين الحدود المقبولة من العدالة الاجتماعية، هو إعادة النظر جذرياً بآليات التنفيذ وبالمنفذين الذين لم يخطئوا أخطاء عابرةً، بل كانت أخطاؤهم عضوية، وهي جزء من بنيتهم الذهنية والعملية.. هذا هو الطريق الوحيد لإزالة الخلل بين المعلن والمنفذ، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن!.