الافتتاحية: من هم أعداء التنمية؟
في تصريح صدر مؤخراً عن أحد كبار المسؤولين الحكوميين الذين يُعنَون بالشأن الاقتصادي، أشار إلى أن الحكومة تتعرض للهجوم من قبل أعداء التنمية..!
قبل الدخول في تفاصيل الموضوع لابدّ من الإشارة إلى أن العداء للتنمية يدخل حتماً في عداد الخيانة الوطنية، لذلك نعتقد أنه لا يجوز إطلاق الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال لمجرد أن أحداً ما قد انتقد السياسات الحكومية من خلال أرقامها المعلنة، لأننا إذا اعتمدنا المنطق ذاته- ولن نعتمده- فيمكن اتهام أولئك الذين فشلوا في تحقيق أي نجاح حقيقي -غير إعلامي- في مجال تنفيذ السياسات الاقتصادية، بالتهمة نفسها، مع أنهم عملياً لم يقدموا للتنمية أية خدمة تذكر، بل يمكن القول إنهم دفعوها للوراء، وخاصة في مجال تحقيق معدلات النمو وفي مجال الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية التي تحققت خلال العقود السابقة..
لذلك فلنناقش برصانة وهدوء موضوع التنمية وما تحقق منها وما تراجع وما حافظ على نفسه..
أولاً التنمية ليست مؤشراً كمياً، وليست مؤشراً بسيطاً، وليست مؤشراً رقمياً.. إنها مؤشر نوعي، ومركب، ويدل على مستوى المعيشة ونوعيتها.
ولكن تحقيق التنمية يتطلب تحقيق مؤشرات كمية ورقمية، وأولها نمو الاقتصاد الوطني..
إذاً، التنمية هي ذلك النمو الذي ينعكس إيجاباً على مستوى ونوعية معيشة أكثرية الناس في المجتمع..
أي أن النمو هو شرط ضروري لتحقيق التنمية، ولكن تحقق النمو لا يعني بحال من الأحوال تحقيق التنمية «أوتوماتيكياً». لأن التنمية تعني في نهاية المطاف التوزيع ألأكثر عدالة لعوائد النمو ذاته، سواء في مجال الأجور أم الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية، الخ..
إن السياسات الحكومية المعلنة لم تضع نصب أعينها فعلياً، حتى من خلال الخطة الخمسية العاشرة، تحقيق التنمية من المنظور المذكور أعلاه، بل وضعت أمامها هدف تحقيق نمو محدد، وإلا فليدلنا أحد إذا كنا مخطئين:
- ما هي، وأين هي أهداف الخطة في تحقيق التوازن بين الأجور والأرباح؟؟
- أين هي أهداف الخطة في الرفع الحقيقي للأجر، وليس الاسمي المطلوب زيادته خلال الخطة 100%، في ظرف تجاوزت فيه نسب التضخم المتراكمة خلال الخطة هذه النسبة بكثير؟
- أين هي أهداف الخطة من تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار؟ أمن خلال سياسة تحرير الأسعار بالطول والعرض، كان يمكن تحقيق هذا التوازن في وقت شهدنا فيه فعلياً فلتاناً فظيعاً للأسعار وتقييداً شديداً للأجور اضطر رئيس الحكومة لأن يعلن مؤخراً في هذا المجال «تفاءلوا بالخير تجدوه..»، أي اعتماد سياسة التعويل على التقادير، مما سيضطرنا لأن نقول نحن هذه المرة: «حسبنا الله ونِعم الوكيل»؟!..
ومع ذلك لم يكن أحد، حتى المغالين في مطلب تحقيق العدالة الاجتماعية، ونحن منهم، ضد رفع وتائر النمو المخططة، حتى وإن لم تنعكس فوراً وإيجابياً على مستوى معيشة الناس، على أمل أن يتحقق ذلك لاحقاً بتحقق نمو تراكمي خلال فترة من الزمن.
ولكن الذي حصل، ولايزال، خيَّب كل الآمال.. فأرقام النمو متواضعة من جهة الأرقام الرسمية. أما الأرقام الفعلية فتتطلب المزيد من البحث والتمحيص. ولكن الدلائل الأولى تشير ليس لعدم تحقق النمو المطلوب فحسب، بل أن النمو كان سالباً، وخاصة في قطاعات الاقتصاد الحقيقي..
أما ما يجري التطبيل والتزمير له حول ارتفاع أرقام الناتج المحلي الإجمالي، إذا لم يؤخذ بالأسعار الجارية، بل الثابتة لعام 2005، فإن اللوحة في هذا المجال رمادية، بل قاتمة جداً..
والخلاصة أن السياسات الحكومية لم تفضِ إلى أية تنمية، لأن مستوى معيشة الأكثرية الساحقة من الناس قد تدهور، ولو قال بعض «المهوبرين» في هذا الصدد إن وجود هاتف خلوي بيد كل صاحب أجر محدود هو دليل على تحسن وضعه المعاشي.. لذلك نذكّر من قال ذلك في اجتماع رسمي: إن تحسن الوضع المعاشي يقاس من خلال سلة الاستهلاك المغيبة والمخفية عن المواطن وعن المجتمع، وليس من خلال إحدى مفرداتها، لأننا إذا اتبعنا المنطق نفسه يجب أن نقول إن وجود ثلاجة طعام في كل منزل هو دليل تحسن الوضع المعاشي، بينما أصبحت اليوم من الضرورات الأولى للحياة. ولا يغيب عن بال أحد أن مستوى المعيشة يقاس ليس بالعيش على الكفاف، وإنما بتلبية الحاجات المتصاعدة لبني البشر، وهذا قانون طبيعي على مر الأجيال والعصور.
ولكن الأسوأ أن هذه السياسات نفسها لم تؤدّ الغرض المطلوب منها، ولم تصل إلى الأهداف التي أعلنتها عندما دق البعض على صدره في أول الخطة الخمسية العاشرة مؤكداً أنه سيصل إلى رقم نمو 7 %، فها هي الحياة تثبت أن النمو المطلوب لم يتحقق.
إذاً، لا تنمية، بل لا نمو، فهل المسؤول عن ذلك هو عدو للتنمية، أم أن من يصرح بذلك، ويشرح خطورة هذا الوضع هو عدو للتنمية؟
لا نريد أن نلقي الاتهامات مثلما يفعل البعض ذات اليمين وذات الشمال، بل نريد أن نقول إن الحياة والوقائع الملموسة قد أكدتا أن السياسات الحكومية المتبعة معيقة للنمو والتنمية.
إن إعادة النظر بهذه السياسات، والانطلاق إلى سياسات أخرى تلبي مصالح الفقراء، لا تحابي ولا تحاكي الفقراء كما يحلو للبعض القول، بل تلبي المصالح المادية العميقة لأكثرية الشعب، هو الضمانة لتحقيق كرامة الوطن والمواطن..