الانتهازية اليسارية والأزمة السورية (*)

 الانتهازية اليسارية ظاهرة تاريخية ذات جذور اجتماعية لازم وجودها تاريخياً حركات اليسار عموماً والحركة الشيوعية خصوصاً. خاصتها الأساسية هي تبني مواقف سياسية يمينية الطابع من ناحية الجوهر ولكن مخرّجة بقالب (يساري) عبر إطلاق شعارات سياسية (أقصوية) لا تسمح موازين القوى على الأرض بتحقيقها، وغالباً ما تعتمد على استبدال التكتيك بالاستراتيجية. تستخدم هذه القوى عموماً ما يمكن أن يطلق عليه (الطريقة) الانتهازية اليسارية مستعينة بتكنيكات شبه موحدة تاريخياً في صياغة خطابها وتخريج مواقفها. أهم عناصر هذه الطريقة:

- التعويض عن (أقصوية) شعاراتها وعدم سماح موازين القوى بتحقيقها بسيادة طابع تقديس الشعب وطاقاته وإعطائها طابع ما ورائي.  إن سيادة هذا الطابع يتعدى كونه مجرد تقديس ساذج للعفوية إلى كونه تغطية وإخفاءً للأدوات والتحالفات التي يستوجبها تحقيق شعارات ومواقف الانتهازية اليسارية. إن ما يختفي وراء عبارات تقديس الشارع وقدراته هو فقدان الثقة بقوى الشعب وإمكاناتها الموضوعية.

- التأكيد اللغوي و الخطابي على معاداة الامبريالية، بأسلوب أشبه بالتطهر الأخلاقي و(رفع العتب) كتعويض عن تلاقي جوهر مواقفهم السياسية مع الدول الامبريالية والقوى الدائرة بفلكها.

- إعلان مواقف سياسية (صحيحة) ولكن في وقت متأخر، إذ إن إعلان الموقف السياسي ليس تطهراً و تسجيل نقاط وتبرئة ذمم، إنما يحدد عامل الزمن (أصالة) هذا الموقف من انتهازيته.

سنتناول في هذه المادة أحد كتاب الفكر اليومي (اليساري) سلامة كيلة بوصفه نموذجاً عن الانتهازية اليسارية المعاصرة، الكاتب الذي يشكل ظاهرة إعلامية تبحث لها عن مكان على الأرض وتحديدا في أوساط (اليسار) الذي تخضع قواه، كما كل القوى السياسية، لعملية فرز في ضوء عودة الفاعلية السياسية للجماهير العربية. في هذا السبيل سنعالج موقف الكاتب من القضايا الأساسية في المسألة السورية، المسألة التي شكلت إحدى أكثر المواضيع إشكالية بين القوى السياسية في المجتمع العربي، والتي جرى ويجري على أساسها عملية فرز وإعادة تعريف بالقوى السياسية المختلفة على ضوء مواقفها مما يجري.

مهام الحراك الشعبي:  كان الكاتب من أوائل الذين تشبثوا بشعار (إسقاط النظام)  في سورية كتكثيف للمهام الآنية للحركة الشعبية ومعادل لرحيل الأسد مبشراً، دون كلل أو ملل، بقرب سقوط النظام منذ اللحظات الأولى لرفع هذا الشعار حتى اللحظة الحالية. ولم يبخل على منتقدي هذا الشعار من موقع حرصهم على الحركة الشعبية، بمختلف أشكال الشتائم، فعلى سبيل المثال يقرر الكاتب بأن: (الشعب المنتفض ليس في لحظة «حوار سياسي» لكي يناقش إمكان إسقاط النظام، بل قرر إسقاط النظام، ولم يخرج إلى الشارع إلا من أجل ذلك، وهو يعيش «حالة ثورية» طالما انتظرت الأحزاب حدوثها، ووضعت الجميع أمام خيارين: إما الاندماج بالشعب، أو«التفذلك» السياسي بشأن إمكان أو عدم إمكان إسقاط النظام. وحتى إن كان التقدير يشير إلى الاستحالة، فليس من الممكن الوقوف على الحياد، بل لا بد من الاندماج بالانتفاضة).

إذا فالكاتب يضع القوى الثورية أمام خيار وحيد، وإلا التفذلك، والمتمثل بالتقاعد عن وظيفتها العضوية اتجاه الحركة الشعبية المتمثلة بصقلها سياسياً من خلال صياغة رؤى وشعارات سياسية تتطابق ومصالحها وإن كانت تتعارض مع مزاجها الآني والمتغير. إن المنطق الذي يتعامل به الكاتب مع الحركة الشعبية الناشئة في سورية هو ما سبق أن انتقده لينين كبير ثوريي القرن العشرين على أنه (إلتصاق بدبر الجماهير) كتوصيف لتقديس عفويتها.

بداية وبعيداً عن التحليل وكما يقول المثل الوقائع أشياء عنيدة، فإن تجربة سنة ونصف أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك عدم سماح موازين القوى الداخلية بتحقيق شعار إسقاط النظام كما طُرح، أي رحيل الأسد كمهمة آنية، إلا عبر دفعة من الخارج وهذا ما يوضحه عدم تبلور ميزان القوى الخارجي لمصلحة تحققه (هذا إذا ما افترضنا أن هذا هو المطلوب، وهذه هي الثورة). وبذلك وضعت الأهلية والنضج السياسي للقوى التي أصرت على هذا الشعار موضع تساؤل، مقابل إحقاق الواقع للقوى التي انتقدت هذا الشعار من موقع حرصها على عملية التغيير الجذرية والشاملة. أما من حيث المبدأ، فإن المنطق العلمي والثوري لا يحتم أن يبتدأ التغيير الجذري والشامل بتغيير رؤوس و رموز السلطة في كل زمان ومكان. فالهدف هو تغيير بنية النظام أي منظومة العلاقات الاقتصادية السياسية التي تنتج وتعيد إنتاج التمثيلات الشخصية لها، والذي لن يمر دون تغيير رموز وشخصيات، ولكنه لا يشترط ذلك التغيير إلا وفقاً لضرورات تغيير البنية، أي أن أي تغيير في الرموز لن يكون ذا معنى إذا بقيت المنظومة على حالها، وهنا يظهر إيهام الجماهير بأن هدفهم هو تغيير شخصيات لا منظومة واسقاط رموز وليس نظام على أنه المعنى الضمني والمخفي لشعار اسقاط النظام بالطريقة التي يطرحها به سلامة كيلة وأضرابه. إن المحدد الوحيد للتكتيكات الثورية التي بمحصلتها يتم انجاز تحويل بنية النظام هو ميزان القوى على الأرض بمكونيها الداخلي و الخارجي. ففي المسألة السورية تتفاعل وتتشابك عدة عوامل تضع مسألة الإصرار على رحيل (رموز السلطة) مقدمة للتغير موضعاً للتساؤل ومن بينها..

- إن الفصل بين النظام أو السلطة وجهاز الدولة في كثير من دول (العالم الثالث) و تحديداً في دولة كسورية، هو فصل نظري لا يتطابق أبداً مع واقع الأمر، ويعبر عن جمود في فهم العلم الماركسي وفي إسقاطه على الواقع السوري. فالاستقلالية النسبية لجهاز الدولة السوري عن الطبقات الاجتماعية (تحديداً في سياق الأزمة السورية) تبلغ مستوى عالياً. إن هذا التأكيد يفترض تغييرات بالتكتيكات المطلوبة لما يسمى بـ (تغيير السلطة مع الحفاظ على جهاز الدولة).

 - تعقد الاصطفافات السياسية داخل جهاز الدولة السوري الذي لا يشكل كتلة صماء متجانسة، إذ أنه يحوي على قوى قادرة على لعب دور في عملية التغيير، هذا الدور الذي لا يمكن دونه تجنب تدمير جهاز الدولة.

- انحراف الاصطفافات السياسية الشعبية على أسس غير وطنية والتي كان أحد عوامل تكونها منذ اللحظة الأولى هو شعار إسقاط النظام بحد ذاته، وردود فعل مختلف الأطراف عليه.

- التناقض السياسي بين النظام السوري وتحالفاته الاقليمية من جهة مع الولايات المتحدة والقوى الاقليمية الدائرة في فلكها من جهة أخرى تحديداً في ما يخص القضايا السياسية للمنطقة. إن هذا التناقض دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف مغايرة في سورية مقارنة بتونس ومصر، الأمر الذي تجلى عبر عملها مع أوروبا وأدواتهما الإقليمية على استغلال القمع الذي مارسه النظام والاصطفافات السياسية اللاوطنية من أجل عزل سورية عن محور المقاومة والممانعة وإجهاض عملية التغيير الجذري كحد أدنى، أو تدمير سورية دولة ومجتمعاً كحد أقصى إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.

 

* مقتطفات من مادة ستنشر كاملة في موقع قاسيون الالكتروني.