العلاقة بين جهاز الدولة والنظام!!

كثيراً ما تعرضَّت المفاهيم السياسية الرئيسية في الأزمة السورية، إلى العديد من عمليات التشويه المتعمَّدة، وشكَّلت بعض وسائل الإعلام منبراً يزخر خطابُ من يعتليه بعمليات التشويه هذه. وكان أحد أهم فصول التشويه، وأكثرها ضرراً، الخلط، المقصود وغير المقصود، بين شرعية النظام السياسي، وشرعية جهاز الدولة السورية. وما بين الشرعيتين بالطبع فرقٌ شاسع ينبغي توضيحه من جهة، وكشف المصالح المختفية وراءه من جهة أخرى..

يشمل مفهوم جهاز الدولة المؤسسات والبنية التحتية والجوانب الخدمية التنظيمية إضافة إلى الجيش، وجهاز الدولة أمر فرضه التطور التاريخي لتلبية الحاجة إلى التنظيم وتقسيم العمل في شتّى المجتمعات البشرية، وسنقف هنا عند هذا الحد من تعريف جهاز الدولة دون الدخول في وظيفته كجهاز قمع. أما مفهوم النظام السياسي، فيشير إلى البنى و الإجراءات والبرنامج السياسي المعتمد في إدارة جهاز الدولة، وعلى أساس هذا البرنامج تتم عملية صياغة الموقف السياسي إزاء النظام. في الحالة السورية، لجأت قوى الفساد المهيمنة على مفاصل هامة في النظام، لاستثمار الخلط ما بين جهاز الدولة والنظام بما يرمي إلى تبرئتها من سياستها الخاطئة، فيما يخصُّ القضية الوطنية، على سبيل المثال، لا الحصر، زاودت هذه القوى وطنياً على الشعب السوري، فاعتبرت أن موقفها الداعم لقوى المقاومة في المنطقة، هو حجتها في الهيمنة على شرعية جهاز الدولة، وتوسيع شرعية النظام السياسي التي تنحصر حدودها في أطر أضيق بكثير من شرعية جهاز الدولة، تنحصر في الجوهر في تمثيل مصالح الطبقة السائدة مع تحقيق شيء من التوافق الاجتماعي، وبذلك أصبح مفهوماً إهمال النظام للمهام والمطالب الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية تحت ذريعة الانشغال بالقضية الوطنية. ووصلت العجرفة التي تحكم عقلية هذه القوى حدّ اعتبار الانتقادات المُحقّة الموجهة ضد سياساتها، وسوء منهجها المُتبّع في إدارة جهاز الدولة تآمراً على جهاز الدولة السورية ذاته، فزجّت بنفسها بالتالي في بوتقة جهاز الدولة.

إن الهدف الحقيقي المُختبئ وراء هذا التمسك بإظهار نفسها على أنها كلُّ موَّحد مع جهاز الدولة، هو انتزاع شرعيّةً ما تحتاجها هذه القوى في غمرة سياساتها العبثية.

في الواقع، لم تكن بعض قوى المعارضة بمنأى عن هذه العملية برمَّتها، فتعنتت برأيها حول محاربة رموزٍ مُحددة من النظام السياسي، فكان موقفها موقفاً جزئياً من أشخاصٍ بعينهم، لا من سياساتٍ مُعينة، ولا من طريقةٍ ما في إدارة جهاز الدولة. وهنا تبرأت من مهامها الطبيعية التي يفرضها عليها المنطق العلمي في المعارضة، فلم تصغ برنامجاً سياسياً لقيادة جهاز الدولة، ولم تضع البدائل، ولم تكلِّف نفسها عناء البحث في أسباب معارضتها.

وفوق ذلك، فإنها في ممارستها العملية تتقصد الخلط بين النظام وجهاز الدولة، فيصبح الجيش هو جيش النظام والمخافر هي مخافر النظام وكذلك الأمر مع المؤسسات والمخابز وخطوط نقل الطاقة.. الخ، الأمر الذي يحقق لهذه القوى غرضها في تفتيت جهاز الدولة وإعادة سورية إلى حالة ما قبل الدولة الوطنية، وإنهاء وجودها موحدة إن أمكن..

إن التفريق بين شرعيتين، شرعية جهاز الدولة بوصفه محصلة عمل الناس على مدى عقود وربما قرون من الزمن، وبين شرعية النظام السياسي، أمر سهل في حدود التفريق النظري، لكنه يصبح أصعب في الحالات الملموسة، تزداد الصعوبة حين نعالج حالة خاصة كالحالة السورية التي تمتاز بضعف تطور الطبقات الاجتماعية الأساسية، إلى جانب استمرار التهديد الخارجي، وعدم وجود فصل حقيقي ولا حتى حقوقي بين السلطات. 

إن درجة التشابك الهائل بين النظام السياسي وجهاز الدولة في سورية، تطرح أمامنا، ونحن على وشك الدخول في «مرحلة انتقالية»، مهمة من طراز وطني ممتاز، هي مهمة تغيير النظام تغييراً جذرياً شاملاً يحفظ جهاز الدولة، إن للعملية السياسية هنا القول الفصل، فهي وحدها من ستسمح لأولئك الذين يهمهم فعلاً الحفاظ على جهاز الدولة، ستسمح لهم بالاتحاد بعيداً عن الانقسامات الوهمية والمضرة بجهاز الدولة القائمة حالياً..