الفرص الضائعة والدوامة المستمرة..

إن الأزمة التي يعيشها السوريون منذ عام 2005 تقريباً، أي العام الذي تم فيه التبني العلني لما يسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي» وحتى اليوم، تشبه في حركتها حركة الدوامة التي تلف بنا ونغوص معها في كل دورة جديدة نحو الأسوأ.. تبدأ الأمور بالأزمات الاقتصادية التي نقرؤها من خلال مؤشرات الفقر والبطالة والتهميش، حيث انتهت الخطة الخمسية العاشرة إلى إلقاء 44% من السوريين تحت خط الفقر الأعلى، واتسع نطاق العشوائيات حول دمشق وحدها بحدود 5 أضعاف ما كانت عليه..

يلي الأزمات الاقتصادية توترات اجتماعية عميقة، تتجلى بدرجات عالية من التفكك الأسري وحالات الطلاق وتراجع التعليم وزيادة منسوب التخلف التي تقود نحو مزيد من التزمت والتعصب الطائفي والديني والقبلي..الخ.

تنتج التوترات الاجتماعية بتراكمها أزمات سياسية، يعبر الناس من خلالها عن فقدهم ليس للثقة فقط وإنما الأمل أيضاً بأي خير يمكن أن يقدمه جهاز الدولة.

وإذا لم تحل المشكلات عند هذا الحد، فإنها تتطور من جديد إلى أزمات اقتصادية جديدة أعمق من سابقتها وأصعب، وهو ماجرى. بعد ذلك، يتصعد التوتر الاجتماعي إلى مستوى أعلى ويُصّعد بدوره من التوتر السياسي، وهكذا ضمن دوامة من الأزمات التي تبتلعنا ابتلاعاً كاملاً..

إن مفهوم الفرصة الضائعة يستند إلى الرؤية السابقة، ونقصد به تلك اللحظات التي كان من الممكن إذا ما استغلت بشكل صحيح أن تخرجنا من الدوامة وتسمح لنا بالتالي أن نتابع الطريق الطبيعي للتطور بجهته الطبيعية نحو الأعلى..

ضمن التوصيف السابق نستطيع الحديث عن دورتين في عمق الدوامة، يوضحهما الشكل المرافق، حيث نبدأ مع أزمة اقتصادية مستوى أول (ق1)، توتر اجتماعي مستوى أول (ج1)، أزمة سياسية مستوى أول (س1)، ومن ثم الدورة الثانية الأعمق (ق2)، (ج2)، (س2)، ولعلنا اليوم نعيش في مرحلة الانتقال من الأزمة الاقتصادية في مستواها الثاني إلى التوتر الاجتماعي في مستواه الثاني، بين (ق2) و(ج2)..

 

رفع حالة الطوارئ

برزت الأزمة السورية إلى العلن مع المظاهرات الأولى في دمشق ودرعا، ولكنها كانت كامنة قبل ذلك في واقع اقتصادي ومعيشي يتردَّى عاماً بعد عام وبشكل متسارع منذ عام 2005، ويترافق مع مستوى حريات سياسية منخفض، وجرت محاولة استباق الأزمة وهي بعد في طورها الاجتماعي حيث أعلن في الشهر الرابع 2011 عن «حزمة إصلاحات» شملت رفع حالة الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية ومحاكم أمن الدولة، لكن هذه الحزمة تحولت إلى فرصة ضائعة لأن الأمور بقيت على حالها من حيث السطوة الأمنية وطريقة التعامل التي لا تعترف بأي قانون وترى نفسها السلطة الأعلى التي لا سلطة فوقها، عند هذا الحد بدأ العامل الدولي بالدخول بشكل سيتضح حجمه أكثر فأكثر مع مرور الأيام، ودخول هذا العامل استغل الثغرات الموجودة أصلاً في بنية النظام السياسي وفي بنية المجتمع، أي الثغرات التي جهزتها وحضرتها الليبرالية الاقتصادية والتبعية الاقتصادية للغرب خلال العقدين الأخيرين وبشكل خاص خلال السنوات السبع الماضية..

اللقاء التشاوري

في هذا الخضم، جاء اللقاء التشاوري في 10 تموز 2011 ليشكل انفراجاً ضرورياً ولو متأخراً في حينه بعد تعطل طويل لقنوات الاتصال والثقة بين الناس وبين جهاز الدولة، وسرعان ما تم إحباطه حيث بقيت التوصيات الثماني عشرة التي خرجت عنه دون تنفيذ، وأدى ذلك إلى مزيد من عدم الثقة وأدى إلى رفع مستوى التوتر الاجتماعي الموجود أصلاً، ولعله في حينها بدأ بالتحول إلى توتر سياسي وإلى أزمة سياسية تمظهرت بتوسع انتشار شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وتعزيز تشكل أطر معارضة مرتبطة بالخارج من أنتاليا إلى اسطنبول..

الرد على الحصار

وبدأت العقوبات الاقتصادية الغربية بالتضافر مع الأساس الليبرالي الموجود أصلاً وبقيادة قوى الفساد في النظام بتعميق الأزمة الاقتصادية ونقلها إلى مستواها الثاني، ولم يجر أيُّ ردٍّ حقيقي على هذا الحصار إلا ضمن حدود فكرة التوجه شرقاً ذات الأهمية الكبيرة والتي لاقت رغم ذلك ممانعة هائلة ولا تزال، ولعل أحد أهم الفرص الضائعة هي الاستفادة من الحصار الغربي لطرد جميع الشركات الغربية والاستيلاء على موجوداتها وتأميناتها، لكن ذلك لم يجر حتى الآن..

الانتخابات المحلية والبرلمانية والفيتو المزدوج

وجاءت العقلية الوصائية بالمادة الدستورية الثامنة القديمة التي أدارت انتخابات الإدارة المحلية (29/10/2011) وانتخابات مجلس الشعب في 7/05/2012 وما بينهما من إقرار الدستور الجديد في 27/02/2012 بمادته الثامنة الجديدة نظرياً حتى الآن، لتضيع فرصة التوازن الدولي الصفري المتشكل حول سورية منذ الشهر العاشر 2011، بصيغة الفيتو الثنائي الروسي الصيني ضد التدخل العسكري الخارجي في سورية لثلاث مرات متتالية، بما تعنيه من إتاحة الفرصة للسوريين لصياغة مخارجهم الآمنة من الأزمة، بأسرع وقت وبأقل تكاليف بعد حقن الدماء ووقف مسلسل العنف القاتل. غير أن العقلية الإقصائية المتجذرة لدى طرفي الصراع المتشكلين بوضوح في حينه: النظام وأجهزته من جهة والمسلحون ومعارضة «الخارج» من جهة ثانية بعد إزاحتهما للحراك الشعبي السلمي عن المشهد أضاعت تلك الفرصة أيضاً، وعززها لدى المواطن غياب ثقته بأية محاسبة جدية للمسؤولين عن سفك الدم السوري، من أي طرف كان، وتسويف عمل لجان التحقيق القضائية المختصة، وترك الأمر للمحاكم «الميدانية» و«الشرعية» ولانتشار عمليات الاعتقال والاختطاف والقنص والابتزاز من طرفي الصراع والهياكل المشكلة حولهما واللذين يدعيان، كل من موقعه في وسائل إعلامهما المنحازة بخطابها بشكل أعمى، الدفاع عن المواطن نفسه الذي يضيع حقه وحياته «فرق عملة».. 

بيان الحكومة الائتلافية 2012

في حزيران 2012 أعلن بعد طول انتظار عن تشكيل حكومة ائتلافية ضمت ممثلين عن الجبهة الشعبية للتغيير وللتحرير المعارضة، وجاء ذلك حسب المنضمين خطوة أولى باتجاه تشكيل حكومة الوحدة الوطنية المنشودة- التي لم تبصر النور حتى الآن. وشكّل موضوعا المصالحة الوطنية والعدالة الإجتماعية الحد الأدنى من التوافق الذي مهد لقيام ذاك الائتلاف. ومرة أخرى بات عدم التزام وزراء الأكثرية النيابية، الناتجة عن قانون الانتخابات القاصر، بالبيان الحكومي سبباً رئيسياً في عدم تحقيقه، إضافة إلى سيادة الاستقطاب الحاد في الدولة والمجتمع وفي داخل النظام وفي المعارضات المختلفة، مع ارتفاع معدلات العنف الدامي مقابل الانخفاض المريع في توفير وتوفر أساسيات العيش من خبز ومصادر طاقة: كهرباء، غاز، مازوت وثبوت أن لا حل اقتصادياً للمشكلات الاقتصادية في ظل إصرار الطرفين على منطق الخيارات الأمنية والعسكرية وتفرعاتهما، بما يعنيه من قيام طور آخر من الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية التي باتت تفضي اليوم إلى خيار الحوار كأحد أدوات المخرج السياسي، المتأخر بكل المقاييس ولكنه المطلوب الوحيد اليوم. 

ضريبة التأخر والمماطلة اليوم

ما مضى قد مضى ولكن ثمنه بالأرقام المعلنة أكثر من 60 ألف ضحية ومئات آلاف المعتقلين وآلاف المفقودين والمخطوفين، وملايين المشردين داخلياً وخارجياً، وهو ليس بالثمن البخس في كل الأحوال ووحدهم المتضررون مباشرة هم من يقدرون قيمة ذلك بالنسبة إليهم..! اليوم ومع ثبوت عقم المواجهات والاستنزاف العسكري تبرز لدى عموم السوريين الرغبة بالتوجه نحو الحل السياسي، غير أن التأخير والمماطلة اليوم تعني إضاعة فرصة أخرى لحقن دماء عزيزة على كل السوريين، وتعني أيضاً، في ظل رغبة واشنطن وحلفائها الاستبقاء في إحراق سورية من الداخل مقابل رغبة موسكو وحلفائها الاستعجال بالحفاظ على الدولة السورية قبل انهيارها، تعني إضاعة إمكانية صياغة حل سوري- سوري كون ذاك التوازن الصفري قد يستنزف مفاعيله أيضاً، ليخرج الحل مرة أخرى للاستقطابات الدولية وتطوراتها، بما يعني طوراً ثالثاً وربما قاتلاً من الأزمة السورية الشاملة.