الحل السياسي ودوغمائية القرار

تعدت الأزمة السورية التي تكابدها البلاد عتبة العام والنصف من عمرها، وقد حملت رياحها ــ حسب إحصائيات مراكز التوثيق غير الرسمية ــ ثلاثين ألفاً على أقل تقدير ممن قضوا ضحية للعنف الذي تتسع دائرته باتساع الأفق أمام أي حل سياسي من شأنه تأمين الخروج التام والآمن من هذه الأزمة، وكنتيجة حتمية للمزاج الشعبي الجديد الرافض للعنف والتسلح تزداد قدرة الحل السياسي على التبلور من جديد في مسرح التداولات السياسية السورية، وقد رافقت (ازدياد القدرة) هذه محاولات عديدة لحرف الهدف الرئيسي من الحل السياسي عن مساره الصحيح، وتتمحور هذه المحاولات حول محورين رئيسيين، يُحاول الأول منهما نسف الحل ليس برفضه، بل عبر المطالبة به من جهة، والوقوف دون تحقيقه واكتماله من جهة أخرى، ويلجأ الثاني للعمل بعقلية دوغمائية بحتة، تعتمدُ في أساسها على اعتبار الحل بمثابة تسوية سياسية، يعودُ بعدها من حمل السلاح ومن طالب بالإصلاح سويةً إلى منازلهم آمنين!

مشروعية النضال السلمي وعقبة السلاح

خرجت المظاهرات الشعبية السلمية في شهورها الأولى مطالبةً بالإصلاح والتغيير ورفع مستوى الحريات السياسية واجتثاث رؤوس الفساد، هذه المظاهرات التي غُيبَت لعقودٍ طويلة عن الساحة السورية عاملها بعض رواد التحليل السياسي على أنها ظاهرة جديدة ومكون غريب عن الثقافة الجَمعية للشعب السوري، وكان التجريب هو السمة الأساسية التي تحكم مجموع الرؤى والتحليلات السياسية التي تبناها هؤلاء خلال شهور الأزمة، قلة قليلة هي من تنبأت بهذا الانفجار قبل وقوعه، هذا التنبؤ لم يكن ناتجاً عن غيبيات تتمتع بها هذه القوى، إنما كانت دراسة واقع المجتمع والبحث السياسي حول إمكانية حدوث الانفجار هو الطابع الرئيسي الذي حكم سياستها، هذا الطابع ساعدها على إسقاط (غول الغرابة) عن التظاهرات التي وُلِدت في أغلبها من رحم تلك المناطق التي تقبع الأكثرية الساحقة من سكانها تحت خط الفقر.

كثرٌ هم من لم يَرُق لهم طابع السلمية الذي اتخذته المظاهرات في بدايتها، فعمد إلى العمل على ضرب استمرارية هذه السلمية، وشل قدرتها على ضخ المزيد من الفئات المهمَشة إلى الحراك الشعبي السلمي، فاعتُمِد القمع من جهة، والترويج للتسلح مُبرراً بالقمع من جهة أخرى كأدوات أمضى في سبيل تحقيق الهدف المنشود لأولئك، فأخذ العنف طابعاً تصاعدياً وصل إلى حده الأقصى، وكردة فعل طبيعية على ويلات العنف، تشكل المزاج الشعبي الجديد الرافض للعنف بشتى أشكاله وأنواعه وحامليه، وتجسد هذا المزاج بشعارات عديدة رُفعت في بعض المظاهرات الشعبية السلمية، وكخطوة تهدف إلى الالتفاف على مطلب وقف العنف، حاول البعض تأويل الحركة الشعبية ما لم تعبر عنه، فبدأ بالترويج بأن ما عنته (أي الحركة الشعبية) من مطلبها هو الوقوف في وجه مسلحي المعارضة فقط، بينما في الواقع فإن هذا المزاج الشعبي لا يعبر عن نفسه حباً بالنظام، بل رفضاً لاستخدام السلاح بعدما أدركت بتجربتها الملموسة خطأ استخدام السلاح، من هنا فإن الحاجة الموضوعية اليوم هي تجفيف منابع التسلح، ووقف العنف من الجميع دون استثناء.

المستهدف: الحركة الشعبية أم السلاح؟

مع بداية تشكل المزاج الشعبي الجديد الرافض للعنف والتسلح، بدأت تظهر محاولات الالتفاف على المطالب الشعبية مرة أخرى، وكان عماد الالتفاف هذه المرة، هو تصوير الدعوة إلى وقف العنف، على أنها بمثابة الدعوة إلى ثني الحركة الشعبية وعودتها من حيث أتت، وهنا الطامة الكبرى التي تُنذر ومنذ الآن بقلة من يريد الحل السياسي بين المكونات الرئيسية لمواقع القرار (المعارِضة منها والحكومية)، حتى بعض من يريد وقف العنف بشكل جدي يقع في خطأ لم يصححه حتى الآن، ألا وهو تغييب الدور الذي يُمكن أن تلعبه هذه الحركة الشعبية في عملية وقف العنف، فالمنطق السياسي السليم يستند في أية عملية يريد القيام بها، إلى الغالبية الساحقة التي تُشكل الرافعة الأساسية لهُ، مما يؤمن له تمثيل أوسع وانتشار أكثر دقة، من هنا فإن الإرادة الحقيقية التي تسعى إلى وقف العنف يجب أن تبدأ أولاً بملاقاة المزاج الشعبي الجديد بمستوى عالٍ من الجدية السياسية، ومن ثم يقع على عاتقها العمل على توسيع نطاق شعار إسقاط السلاح ليشمل جميع المسلحين أينما كانوا وحصر السلاح بيد الجيش باعتباره ضمانة الوحدة الوطنية، والأهم من كل هذا هو إيمان هذه الإرادة بعدم فاعلية أي خطوة سياسية صغيرة كانت أم كبيرة، إن لم تستند في باطنها وظاهرها إلى الحركة الشعبية السلمية كمكون رئيسي من مكونات المجتمع السوري قادر بحجمه على الضغط نحو إيقاف العنف وفتح الباب أمام حوار سياسي شامل، أثبت الواقع السوري اليوم أن الخطوات السياسية التي لم تشق طريقها نحو النجاح، كان السبب الأساسي وراء فشلها هو فقر العناصر الشعبية الرافعة لها، وبُعد المسافة ما بين غالبية القوى السياسية والحركة الشعبية السلمية التي لم تُمثل حتى الآن تمثيلاً جدياً في مطابخ صنع القرار السياسي.