بعض (المثقفين) والأزمة في سورية
ما يثير الدهشة والاستغراب أن بعض مثقفينا (الماركسيين) و (القوميين) السابقين، الذين كانوا أكثر عداوة للامبريالية الأمريكية والصهيونية ومشاريعهما في المنطقة، ومن أكثر المتحمسين للاتحاد السوفيتي والتجربة الاشتراكية، نجدهم، وبخاصة بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، وبعد أن تحولت أمريكا إلى الدولة العظمى الأقوى في العالم، واحتلالها لأفغانستان والعراق، قد تحوّلوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وتجندوا حينها للدفاع عن الاحتلال الأمريكي للعراق، ووقفوا موقفا عدائيا من حركات المقاومة والممانعة، نجدهم اليوم لا يرون في الأزمة السورية، إلاّ حراكا (شعبيا)، تطوعت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وإسرائيل وتركيا وقطر والسعودية، لمساعدة شعبنا لإسقاط النظام، كي ننعم (بالديمقراطية والعدالة والمساواة).
الغريب في الأمر، ليس موقفهم من الأزمة، فهناك مواقف أكثر تشدداً، حيث وصل بالبعض لحمل السلاح، وهم أحرار بذلك، بل الغريب هو التحول العكسي في قناعاتهم خلال مدة زمنية قصيرة.
ترى ما الذي حصل؟ وكيف يمكن لهؤلاء التحول السريع في قناعاتهم؟
يقول إدوارد سعيد: ( .. أريد أن أؤكد بعض الملامح البالغة القبح في ظاهرة التحول من عقيدة إلى أخرى ثم الارتداد عن العقيدة المعتنقة وكيف يؤدي قيام الفرد المعني علناً بالتصديق، والردة بعد ذلك إلى لون من النرجسية وحب الاستعراض عند المثقف الذي يفقد ارتباطه بمن يفترض أن يعمل لمصلحتهم من الناس أو من إجراءات التغيير وقد ازداد تعقيد الأمور أمام المثقفين العرب بسبب بروز الولايات المتحدة أخيراً باعتبارها القوة الخارجية الرئيسية ذات الوجود في الشرق الأوسط اليوم وأما ما كان يعتبر ذات يوم عدوّا تلقائياً لأميركا وإن اتسم بالجمود الفكري والبساطة المضحكة وغلبة القوالب الثابتة عليه، فقد تحول إلى مناصر لأميركا بناء على أوامر سامية وانخفض النقد الذي كان يوجه للولايات المتحدة بل وتلاشى أحياناً، يبرز في أمثال هذه المواقف وهذا السلوك عدد من الظواهر، أولها: الافتقار الكامل إلى العالمية والشمول، إن من يعبد أحد أولئك الأرباب عبادة عمياء، يرى جميع الشياطين في الجانب الآخر.. فهو لا يتناول السياسة فكرياً من حيث العلاقات المتداخلة والمتشابكة، أو من حيث التاريخ المشترك للشعوب.
ثانياً: إن مثل هذا المثقف يطأ بقدميه، قصة عبادته السابقة، لسادته السابقين أو يصفها أنها كانت شراً مطلقاً، لكن تلك القصة لن تدفعه إلى أدنى قدر من الشك في ذاته، ولن تثير فيه أدنى رغبة في التساؤل عن صحة عبادة رب من أولئك الأرباب والانتقال فجأة بعدها إلى عبادة رب جديد ذلك أبعد ما يكون عن الواقع، فمثلما تغيرت عباداته في الماضي، سوف يستمر في ذلك في الوقت الحاضر، وقد يتسم ذلك بزيادة في بلادة الشعور، ولكن الأثر النهائي لن يختلف مطلقاً)
ما الخلفية والأسباب النفسية التي دفعت هؤلاء إلى التحول؟ إضافة إلى ما ذكره أدوارد سعيد، فإن هذا المثقف فضل الهروب من الموانع والضوابط التي وضعتها الأنظمة السائدة - حيث تتجاهل هذه الأنظمة تلك القوى السرّية الداخلية التي تقبع في الإنسان نفسه وتهدد في كل جيل بثأر جديد للغريزة من العقل، ثأر الفوضى من النظام المتحضر - إلى الليبرالية الغربية التي اعتقد ويعتقد أنها الحل، الذي يسعى للوصول إليه وخاصة بعد انحلال الاتحاد السوفييتي، واعتقاد هذا المثقف، أن الاشتراكية فشلت وخسرت المباراة.
إن الخطأ الفادح الذي يقع فيه هؤلاء المثقفون هو عدم قدرتهم على التمييز بين الليبرالية التي قدمها كنظرية مفكرون كلاسيكيون أمثال «ج. لوك» و «ج. س. ميل» و «أ.توكفيل»، والليبرالية كظاهرة من ظواهر الثقافة العالمية المعاصرة أي بين الليبرالية بوصفها نظرية سياسية كلاسيكية، وبين الليبرالية كسلاح في الحرب الباردة إن ما بين هاتين الليبراليتين مسافة كبيرة، فالليبرالية الكلاسيكية كانت تعني انتزاع حقوق فعالة، أي حقوق ضرورية للفرد من أجل أن يحقق قدراته ومبادراته، أما الليبرالية المعاصرة فهدفها هو الابتعاد عن أي التزامات وواجبات وتأييد ذلك الابتعاد. بعبارة أخرى إن الليبرالية الأولى، بنت الفرد اجتماعياً وحررته، أما الثانية فتفكك اجتماعية الفرد وتحرره من كل أشكال الواجب الاجتماعية.
لقد وصف فرويد «عقدة أوديب»، أي السعي اللاواعي للتخلص من ذلك الشيء الذي يذكرنا دائماً بالواجب والمسؤولية، كقوة في داخلنا تميل إلى الفوضى والبربرية، إن أسطورة «أوديب» ليست ماضياً بعيداً تجاوزناه إلى الأبد، بل هي ما يرافق دائماً حالتنا المتحضرة، ويبقيها موضع تساؤل وكلما - كما يقول المفكر الروسي المعروف الكسندر بانارين - تطورت الحضارة أكثر، اتسعت منظومة القواعد الاجتماعية والأخلاقية أكثر، وازدادت «عقدة أوديب» وازداد احتمال الانفجار الذي يعني ثأر «مبدأ اللذة» من «مبدأ الواقع».
والأخطر، هو أن كل ذلك يدور على مرأى ومسمع «أوديب» الشاب - الذي يمثل بعض أبنائنا الجامعيين والشباب - الذي يعرف حق المعرفة كل أنواع الموبايلات وذواكرها وإمكانياتها، ويعرف أنواع السيارات وموديلاتها من صوت محركها دون أن يراها.. إلخ، لكنه يجهل في الوقت نفسه من يكون يوسف العظمة وسلطان الأطرش، أو ما هي حرب الخليج الأولى أو الثانية مثلاً، ويرى في الواجبات والالتزامات الوطنية، (موديلاً) قديماً يجب التحرر منه.
إن الولايات المتحدة الأميركية تركز أكثر ما تركز - كي تبرر تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدولنا - على مثقفينا وعلى (الفتيان أوديب)، وتتستر خلف أطماعها الاستعمارية الجشعة بأنها تريد مساعدة هؤلاء (الأوديبات) للتخلص من والدهم (المتسلّط) «الدولة الوطنية» لتفتح أمام غرائزهم الباب على مصراعيه، دون أي التزامات وطنية وقواعد أخلاقية، يمكن أن تثير التذمر لدى (أوديب).
وهكذا تحاول أمريكا التأثير على (أوديب) كي يزعزع دولته الوطنية بامتناعه الدائم عن المشاركة في كل أنواع الواجب الوطني، كي يخرجها من صفوف المناهضين الجديين للدولة العظمى العدوانية، ومن ثم يعطي هذه الدولة العظمى مبرراً للتدخل تحت ستار ( الديمقراطية ومكافحة الإرهاب)، أمّا الإرهاب، فسيغير شكله تبعاً لحاجات الإستراتيجية الأميركية الدولية، وهذا ما نراه جليا اليوم في موقفها من حركات المقاومة، والعصابات الإرهابية الوهّابية في سورية.
من هنا ينتج أن الفتى (أوديب) سيحاول في البداية قتل (أبيه) - الدولة الوطنية- ثم ينتظر بعد ذلك الوقوع في يد (زوج الأم) الأميركي، الذي تشير كل الدلائل إلى أنه لن يعامله بلطف، بل سيصبح عبداً مسلوب الحقوق يتحكم (زوج الأم) بمصيره دون أية مشاعر أبوية، وما حدث في العراق، وفي الدول الأخرى، هو دليل واضح على ذلك.