مع من تريدون الحوار؟؟

ترتدي الكثير من المواقف الخاطئة، القاتلة أحيانا،ً لبوساً أخلاقياً وحقوقياً براقاً، إلا أن الترجمة السياسية لهذه المواقف والنتائج المترتبة عليها قد تكون الأكثر انحطاطاً بالمعنى الأخلاقي والإنساني، وتنشأ هذه الإشكالية من الفارق ما بين معالجة الأسباب ومعالجة النتائج، وما بين السبب الحقيقي والذريعة الواهية. والأمثلة على ذلك كثيرة في الطروحات المتطرفة في الأزمة السورية، كأن تُبَرّر فكرة التدخل العسكري الخارجي بذريعة حماية المدنيين، وكأن تطلق الدعوات للقتل والتشبيح بذريعة التصدي للمؤامرة. فلا شك أنه من المطلوب حماية المدنيين والتصدي للمؤامرة، ولكن ليس عبر التدخل العسكري الخارجي أو العنف أو التشبيح، لأن ما نتج وينتج عن هذه الأشياء الأخيرة هو عكس الذرائع التي سيقت لتبريرها تماماً..

«كيف تحاور من تلوثت يداه بالدماء؟؟» سؤال لطالما ردّدته المعارضة المتطرّفة في بداية الأحداث، يوم كانت المظاهرات سلمية وتتلقّى العنف على أشدّه. المعارضة المتطرّفة التي ألهب النموذج المصري والتونسي حماسها، والتي أغواها الكسب السريع والثورات الماراتونية، تلك المعارضة التي رمت النظرية جانباً ومعها الظروف الدولية والإقليمية والداخلية...ألخ، وآمنت بشعب أعزل لا يمتلك سوى أجساد تتلقى الرصاص في الساحات، آمنت بذبح الألوف بالضرورة على مذبح أحلامها بالديمقراطية...
لم يسمح ضمير المعارضة المتطرّفة لها بالحوار مع «من تلوثت يداه بالدماء» أما عقلها فقد قال لها إنها ستكسب بسفح المزيد من الدماء، ستمتلك أوراقاً أكثر للضغط على النظام كي يخلي مواقعه لها، وما على الشعب إلا بذل التضحيات. وأي حوار مع النظام «سيعطي النظام شرعية» كما لو أن المعارضة المتطرّفة هي من يعطي الشرعية للنظام وليس قوته العسكرية وتحالفاته، والموقف الوطني الذي تبرعت به المعارضة نفسها للنظام..

ثمّ زال شبح التدخل العسكري الخارجي الذي كانت تنتظره المعارضة اللاوطنية، وتعمّق النزاع المسلح وجاء بالويلات التي تحفّظ عن ذكرها مبررو التسلح في وقت مضى، وتأكدت حقيقة عجز كل من الطرفين عن إسقاط الآخر عسكرياً، وبدأت الرغبة في الخلاص من الصراع العسكري وتحويله إلى صراع سياسي حضاري تظهر عند الناس، وكثر الحديث عن الحوار، وازدادت أفواج المؤمنين به، ولكن ظهر السؤال «كيف تحاور من تلوثت يداه بالدماء؟؟» ولكن من صفوف الموالاة المتطرّفة هذه المرّة، كيف يمكن محاورة المسلّحين؟ أو من أيّدهم؟ وهم من قتلوا إخوتهم في الجيش والدولة؟؟ لم يعد الصفح ممكناً أبداً، وحق عليهم القصاص!! لذا فإن على الجيش أن يستمرّ قي الثأر لبعض الموتورين، وأن تسحق الدولة مدناً بأكملها ويستمر القتل و«التطهير» إلى مالانهاية، وكأن هذا هو الدور المتبقي للجيش والدولة، وليس الصراع مع العدو الإسرائيلي، وتحرير الأراضي المحتلّة، ودعم المقاومة في لبنان وفلسطين!!

وطالما أن الفيض «العاطفي والإنساني» لمتطرّفي الموالاة والمعارضة يتحفنا بآراء تسمح ببقاء منسوب الدماء مرتفعاً، وطالما أن ضميرهم يأبى إلا أن يقدم المزيد من التضحيات على حساب الجيش وأبناء الشعب، لنا أن نتساءل: من منكم لم تتلوث أيديه بالدماء؟؟ ولنا أن نجاوب أيضاً: كلاكما تلوثت أيديه بالدماء، ولكن كلاكما يجيد تبرير ما يمارسه من قتل، ويخفيه خلف شعارات برّاقة..

الحوار لن يجدِ نفعاً إذا كان حواراً مع الذات، أو إذا كان بغرض قطع الطريق على الطرف الآخر. بل يجب أن يكون الحوار مع أطراف الأزمة الحقيقية والفاعلة، من نظام ومعارضة وحركة شعبية سلمية وحتى مسلّحين، ولكن تحت مبادئ نبذ العنف والتدخل الخارجي. لذا فإن الجرأة في الذهاب صوب حوارٍ حقيقي أعلى بكثير من التجرؤ على حمل السلاح وممارسة العنف، وما من مخرج آمن من الأزمة التي تعصف بالبلاد دون هذا الحوار..