أما آن للمسلحين أن يتركوا خنادقهم؟؟

أما آن للمسلحين أن يتركوا خنادقهم؟؟

إذا استثنينا المعارضة الوطنية وبعض القوى في النظام التي دعت منذ بداية الأزمة في سورية إلى الحل السياسي، نستطيع القول إن القوى المتشددة في النظام تتقاسم مع المعارضة المسؤولية كاملة عن انتشار السلاح والاشتباكات المسلحة بين الجماهير وعلى الأرض، أما الأطراف الخارجية الداعمة للتسلح فلا يمكن وضعها بموضع الملامة لأنها أطراف معادية للوطن والشعب أساساً، والمحصلة كانت أن لجأت أجزاء واسعة من الحركة الشعبية إلى التسلح مجبرة أو متعاطفة أو مورّطة أحيانا من جانب المسلحين الباحثين عن غطاء شعبي، كما حدث في الأيام الأخيرة في دمشق، وكانت النتيجة أن أصبح الشعب هو الخاسر الأكبر، وأن انتقلت المبادرة من يده إلى أطراف أخرى بعيدة عنه سياسياً أو جغرافياً..

بداية الحكاية:

البداية كانت مع النظام الذي لجأ في بداية الأحداث إلى اختلاق فبركات إعلامية وأمنية فاشلة، ومبالغات عن حجم التسلح وانتشاره، وروايات عن علاقة المتظاهرين بقوى خارجية معادية، الأمر الذي سرعان ما انكشف أمام الجماهير التي لم تستطع تكذيب عينيها ولا تجاهل مقدار العنف الممارس عليها من  الأجهزة الأمنية، ولم تقبل أن تنعت بالعمالة والخيانة والإرهاب، لأنها كانت تاريخياً سنداً حقيقياً وشعبيا للسياسات السورية الوطنية في المحطات المختلفة في تاريخ الصراع مع الغرب والكيان الصهيوني.

 ونتيجة لخوفها من سيف الإصلاح السياسي ارتأت بعض قوى الفساد في النظام أن نقل المعركة من السلمي ( السياسي) إلى المسلح (العسكري) هو عمليا استدراج للحركة الشعبية إلى ملعبها- أي قوى الفساد- الذي تبرع فيه كونها خاسرة مسبقاً للمعركة السياسية، وهذا يفسر تغاضي بعض القوى في الدولة عن دخول السلاح والمال والرجال إلى الأراضي السورية. آنذاك حذرت القوى الوطنية في المعارضة والموالاة من مغبة الاحتكام إلى لغة السلاح، وأكدت على ضرورة ترجمة ميزان القوى الجديد الناجم عن ظهور الحركة الشعبية على مسرح الأحداث ترجمة سياسية من خلال توسيع الحريات الديمقراطية وملاقاة الحركة الشعبية السلمية بحلول استباقية وجذرية وشاملة، لأن المضي بغير هذا الطريق يمكن له يدفع باتجاه استجلاب التدخل الخارجي بكل أنواعه، واحتمالات الحرب الأهلية وتقسيم البلاد، ويضعف الدور الاستراتيجي للدولة والجيش في مواجهة العدو.

النظام تجاهل تلك التحذيرات، أما المعارضة اللاوطنية فقد شنت هجوماً شرساً على دعاة السلمية، متهمةً إياهم بالتهويل والتخاذل أمام القمع، واستغلت الطريقة التي تعامل بها النظام مع الحركة الشعبية لكي ترفع شعار إسقاطه بالسلاح، مدعية ان هذا خيار فرضه النظام عليها، وهكذا اتفقت القوى المتشددة في النظام والمعارضة اللاوطنية على الاحتكام إلى السلاح، وكل منهما له أسبابه الخاصة، النظام يظن أنه قادر على الحسم بهذه الطريقة، والمعارضة اللاوطنية تظن أنها ستستجلب التدخل العسكري الخارجي، كما حدث في ليبيا بالضبط، الناتو يقصف البلاد والمسلحون يتقافزون أمام الكاميرات والإعلام ينسب «النصر للثوار»..

مفاجئات غير سارة:

المفاجأة بالنسبة للنظام أن الحسم العسكري مستحيل، وأن السلاح لن يفعل شيئاً سوى أن يزيد من عمق الأزمة، فمحاولة حل أزمة غير تقليدية بأدوات تقليدية هي ضرب من الغباء والتخلف، واللجوء إلى المنطق التجريبي والذاكرة الحية في التعامل مع الأزمات دائماً هو أكبر خطأ، وخصوصاًُ أن الذاكرة الحية للنظام معطوبة، لأنها لا تشتمل إلا على التعامل مع المؤامرات والدسائس، ولا تعي دوراً نشيطاً للجماهير في الحياة السياسية..

أما المعارضة اللاوطنية فمثلما كانت تنتظر الحسم من الخارج جاءها الرد من الخارج أيضا، ولكن من الروس والصينيين هذه المرة بواسطة فيتو مزدوج مكرر ثلاث مرات منع التدخل العسكري الخارجي، وهذه مفاجأة لا يحسدون عليها نظراً لتركيبتهم وتكوينهم التاريخي المرتبط بالخارج.

وعلى أي حال فإن المفاجأت تلك كانت لمصلحة البلاد والعباد، لأن ذلك يدفع باتجاه الحل السياسي والحوار الوطني وباتجاه الخروج الآمن من الأزمة، أما الطرفان المذكوران فلا يزال كل منهما يكابر، ويعد بالحسم السريع ضد الطرف الآخر مستخدماً الجماهير وقوداً في محرقة التسلح..

محرقة التسلح:

أثبتت أحداث دمشق في الأيام العشرة الأخيرة أن كل المعارك الشرسة والطاحنة التي أودت بأرواح الكثير من المدنيين والعسكريين والمسلحين، وتسببت بخسائر هائلة على مستوى البنية التحتية في العاصمة، لم تنفع بالاستعراضات الإعلامية والتهويش والحرب النفسية لقوى المعارضة اللاوطنية، وأثبتت أيضاً أن طريقة ترتيب تلك الأحداث وتسلسلها تشترك فيه قوى استخباراتية دولية بالتعاون مع جيوبها واختراقاتها في جهاز الدولة، ولم يكن للمسلحين إلا أن يؤدوا دور الضحايا والجثث المتراكمة في الشوارع، والمقابل فقط هي الوعود بالنصر والخلاص والثأر..الخ، والمؤسف بالأمر أن خندق المسلحين هذا يحتوي على قوى تتناقض مصالحها إلى حد التناحر أحياناً، ولكن الاصطفافات الوهمية جمعتها في خندق واحد، فمنهم من حمل السلاح للدفاع عن نفسه نتيجة استمرار قمع الاحتجاجات السلمية، ومنهم من انشق عن الجيش وقوى الأمن نتيجة للضغوط النفسية والاجتماعية الشديدة في نقاط المواجهة، ومنهم من تورط بالسلاح نتيجة تخويفه من اقتحامات الجيش، وهؤلاء كلهم لم يكن لهم مصلحة أساساً في حمل السلاح بل كان من مصلحتهم النشاط سلمياً لتحقيق مطالبهم، لذا يجب على النظام اليوم كسبهم وتحييدهم عبر ايجاد صيغ مختلفة للتسوية معهم، أما المسلحون المرتبطون بالخارج أو مسلّحو المنظمات الأصولية، فهم يمثلون خطاً آخر هو خط المعارضة اللاوطنية، وينبغي إضعاف دورهم بكل الوسائل السياسية والعسكرية والإعلامية، وهؤلاء سيطردون تلقائياً من البيئات الشعبية بمجرد انطلاق الحل السياسي والحوار..

تئن الأرض تحت أقدام أبنائها المسلحين الراكضين خلف سراب الثأر والحسم والانفراد بالبلاد، ولكنها تشتد تحت أقدام أبنائها الرافضين للعنف والإقصاء والمؤمنين بالحوار كشكل وحيد للصراع.. الحوار كصراع يليق بنا