قضية المهجرين..درس في الوحدة الوطنية

قضية المهجرين..درس في الوحدة الوطنية

تعمد الكثير من وسائل الإعلام الغربية الناطقة بالعربية بالتعاون مع أجهزة استخبارية دولية، لها اختراقاتها في الدولة والمجتمع، على تخويف السوريين من بعضهم، وإحياء الفوالق والأحقاد الطائفية والقومية، وذلك بهدف تمرير إمكانية تقسيم البلاد سياسياً أو تقسيمها عسكرياً على النمط العراقي- أي بواسطة مليشيات طائفية تسيطر على اقطاعات متنازعة- وإدخال تلك العقلية إلى الوعي الشعبي السوري، 

ولم تتورع تلك الجهات عن استخدام أكثر الأساليب وحشية للوصول إلى تلك الغاية، وعلى رأس تلك الأساليب المجازر في المنطقة الوسطى، والتي كانت تتم ضمن ظروف شديدة الغموض، وتستهلك في السجال الإعلامي بين المعارضة والموالاة، ليظهر دورها في نهاية المطاف كأداة لقسم المجتمع السوري عمودياً وإدامة أمد الاشتباك بعيداً عن هذا الهدف السياسي أو ذاك، وهو ما ينتمي بالعمق إلى منطق الفوضى الخلاقة في كامل منطقة الشرق بما يضمن مزيداً من الهيمنة الامريكية على مقدرات المنطقة..

تعرضت تلك المحاولات خلال عمر الأزمة السورية إلى ممانعة منقطعة النظير من جانب الشعب السوري في محطات كثيرة، وذلك على الرغم من ظرف الفوضى الأمنية العارمة، والأزمة الاقتصادية الخانقة، ومستوى التدخل الدولي العالي في الأزمة السورية من أطراف دولية معادية للشعب والدولة السورية، ولم يكن هتاف «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد» مجرد كلمة عابرة في حراك السوريين، بل كان جامعاً حقيقياً لهم على اختلاف موقعهم السياسية، في المعارضة والموالاة، فقد ترجم هذا الشعار على الأرض مراراً وتكراراً في لحظات صعبة من عمر البلاد، ومثّل هذا الشعار رد فعل الناس على التطرف بكل أشكاله، فمن درعا إلى حمص وطرطوس وحماة واللاذقية ودير الزور إلى القامشلي والسويداء إلى حلب ودمشق، كان الأخوة يحتضن بعضهم البعض مع كل صراع مرير ومع كل حلقة من مسلسل العنف الدائر في البلاد، فلم ينس السوريون التاريخ الطويل في العيش المشترك، ولم يجدوا ضيراً في تقاسم القوت والمأوى، ولن يتخلوا عن مداواة جراح إخوتهم..

ولعل دخول مدينة دمشق على خط الأحداث الساخن كان إحدى تلك المحطات في ترجمة الشعار العظيم، وليس آخرها، فعلى الرغم من أن المهجرين من أحياء الميدان والقدم والحجر الأسود ومخيم اليرموك والتضامن والغوطة الشرقية...الخ، تم تخويفهم من مجازر طائفية وقتل بالجملة واستخدامهم كدروع بشرية وكل ما ابتدعه تجار الحروب والدماء في تاريخ الإنسانية، لم يأبهوا لتلك التحذيرات، ولم يمسكوا بالسلاح كما طلب منهم، فهم على ثقة بشعبهم أينما كان، ولم تساورهم الشكوك بوطنهم الذي لم يضيق فيهم يوماً ولن يضيق..

وهذا ما كان، اُستقبل الأهالي في أحياء ومدن مجاورة، في مساكن برزة وجرمانا وصحنايا وضاحية قدسية وباقي أحياء المدينة وريفها ومحافظة السويداء، فتحت البيوت والمدارس ودور العبادة لاستقبالهم، نادت المكبرات لتقديم المساعدات لهم، هرع الأهالي والمتطوعون والهلال الأحمر والجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني لتقديم الخدمات لهم، وسط شبه غياب للدور الحكومي، ووسط بعض المضايقات من المتطرفين وما يسمى بـ «اللجان الشعبية»الذين سرعان ما تصدى لهم الأهالي، ومنعوهم من التعرض لضيوفهم، وهكذا لتتحطم من جديد المساعي الهادفة للنيل من الوحدة الوطنية ومن وحدة الشعب..

بعيداً عن الخوض في التفاصيل فإن مسألة المهجرين ساهمت في خلق مفهوم حقيقي للوحدة الوطنية، فبعد أن صُدرت الوحدة الوطنية خلال السنوات الماضية على أنها إلصاق لمكونات الشعب الطائفية والقومية إلى جانب بعضها البعض، تبرز اليوم الوحدة الوطنية كوحدة المكونات السياسية والتفافهم حول وحدة أرض الوطن وشعبه، وهذا برز من خلال مسألة المهجرين بشكل واضح، إذ استطاع المهجرين والمضيفين تجاوز مسألة الصراع السياسي إلى حين، فهم بذلك طمسوا انتماءاتهم المذهبية والطائفية والقومية إلى غير ظهور..

رب ضارة نافعة، فقد تحولت البيوت والمدارس إلى ساحات للحوار، لأنهم يعرفون ما يجمعهم، ويعرفون كل الطرق الحضارية للتعبير عن أنفسهم، ويتعالون متى أرادوا على جراحهم، وقد أظهر شعبنا بذلك إرثه الحضاري الضارب بالعمق، فلتتعلم المعارضة والنظام من مدرسة الشعب..