مَن هم «الكادحون بأدمغتهم»؟ وهل المعرفة «محايدة»؟
غولييلمو كارشيدي غولييلمو كارشيدي

مَن هم «الكادحون بأدمغتهم»؟ وهل المعرفة «محايدة»؟

ما هي المعرفة وكيف يتمّ إنتاجها؟ وما هو العمل الذهني؟ ينطلق الباحث غولييلمو كارشيدي من تحليل ماركس لعملية العمل وتوسيعها إلى توليد المعرفة (إلى عملية العمل الذهني). ويقترح فرضيةً لتصنيف الأعمال إلى «ذهنية» مقابل ما يصفها بالأعمال «الموضوعية». وفيما يلي أبرز ما نشره الباحث حول الموضوع في مجلة «الفكر النقدي الأممي»، عدد أيلول 2022، في ورقة بعنوان «أنطولوجيا المعرفة وبُعدها الاجتماعي: عصر كوانتا الإنترنت».

تعريب وتلخيص: د. أسامة دليقان

عملية العمل هي إجراء سلسلة من تغييرات (تحويلات) لقيمٍ استعمالية إلى قيمٍ استعمالية جديدة. وهذه التغييرات موضوعية وذهنية معاً. في التغييرات الموضوعية، تقوم قوّة العمل بتحويل وسائل التغيير الموضوعية (كالمِطرقة مثلاً) وتحويل مواضيع التغييرات الموضوعية أيضاً (كالخشب) إلى مُخرَجٍ موضوعيّ جديد (طاولة مثلاً). في التغييرات الذهنية، تُحوِّلُ قوّةُ العمل معرفتَها وكذلك المعرفةَ المحتواة في وسائل التغيير الذهني الموضوعية (كالحواسيب) ومواضيع هذا التغيير (كالكتب) إلى معرفةٍ جديدة.
وكما هي الحال مع الأجسام الموضوعية، فإنّ القيمة الاستعمالية للمعرفة هي ذاك الاستعمال الذي يمكن وفقاً له التصرّف بها.

تعريف مقترَح «للعمل الذهني»

يقدّم غولييلمو كارشيدي (Guglielmo Carchedi) اقتراحاً للإجابة عن مسألة: على أيّ أساس يمكن تصنيف العمل إلى «ذهني» و«موضوعي». وينطلق من نقطتين. أولاً، بحسب رأيه فإنّ التمييز بين التغييرات الموضوعية والتغييرات الذهنية هو «تحليليّ فقط». وثانياً، هو يفضّل إطلاق صفة «العمل الموضوعي» على ما يوصَفُ في أدبيات ماركسية أخرى بالعمل «العضلي» أو «الجسدي» أو «الفيزيائي» أو «المادّي»، أو «الكدح بالسواعد» مقابل «الكدح بالأدمغة» مثلاً.
فيكتب كارشيدي ما يلي: «إنّ التغييرات الموضوعية في عمليّة عملٍ ما تتطلَّبُ (بمعنى تُحدِّدُ) في الواقع التغييرات الذهنية، والعكس صحيح. لكنّ عملية العمل إمّا أن تكون موضوعية أو ذهنية، وذلك تبعاً لنوع التغيير المُحَدِّد».
ولكي يوضّح كارشيدي ما الذي يقصده بـ«التغيير المُحَدِّد»، يقدّم أولاً، وكاستنتاجٍ من أعمال ماركس تعريفاً لمفهوم «التحديد»: فلنأخذْ موضوعَين (أ) و(ب). نقول إنّ (أ) يُحدِّدُ (ب) إذا كان (أ) شرطاً لوجود (ب)، ونقول إنّ (ب) مُحدَّدُ بواسطة (أ) إذا كان (ب) شرطاً لإعادة إنتاج (أ) أو إزاحته.
ويجدر التنويه إلى أنّ كارشيدي استعمل هنا مصطلح «إزاحة» بالإنكليزية supersession بمعنى النفي الديالكتيكي الذي يؤدّيه المصطلح الألماني Aufhebung كما درج على استعماله هيغل وماركس.
وعلى هذا الأساس، يقول كارشيدي إنّه في «عملية العمل الموضوعي» تقوم التغييرات الموضوعية بتحديد التغييرات الذهنية ويكون المُخرَجُ قيمةً استعمالية موضوعية جديدة. أمّا في «عملية العمل الذهني» فتقوم التغييرات الذهنية بتحديد التغييرات الموضوعية ويكون المُخرَجُ معرفةً جديدة. ويشدّد كارشيدي على أنّ من الخطأ التفكير في «العمل الموضوعي» على أنه منفصلٌ عن النشاطات (التغييرات) الذهنية.
وفي تعاقب عمليّات العمل الذهني، يكون المُخرَج المعرفيّ لعمليّةٍ ما مُدخَلاً معرفيّاً للعملية التي تليها. وهذا على النقيض من آراء أخرى (كما لدى كوستاكيس، 2012) تعتبر «المعلومات دائرية، بمعنى أنها مُدخَلٌ ومُخرَجٌ معاً... وأنّ من الصعوبة الشديدة بالتالي أن نميّز بين إنتاج وتوزيع واستهلاك المعلومات». سوء الفهم لدى آراء كهذه ينشأ من النظر إلى المعلومات بوصفها مُدخَلاً ومُخرَجاً معاً للعملية الذهنيّة الواحدة نفسها.

كيف نعرف أيّ تغيير هو المحدِّد؟

لمعرفة ما هو نوع التغيير المحدِّد في عمليةِ عملٍ معطاة، ينبغي النظر إلى لحظة التحقّق (تحقُّق القيمة)؛ فإذا كانت التغييرات الذهنية هي المحدِّدة، فإنّ البضاعة يتمّ شراؤها بسبب محتواها المعرفيّ. فنعرف بأنّ عملية العمل (التي أنتجتها) كانت «ذهنية».
وبالعكس، إذا كانت التغييرات الموضوعية هي المحدِّدة، يتمّ شراء البضاعة بسبب خصائصها الموضوعية. فنعرف بأنّ عمليّة العمل التي أنتجتها كانت «موضوعية». وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ لأوّل وهلة أنّ المعيار الذي يضعه كارشيدي ضَيّقٌ تاريخياً ويقتصر على الإنتاج البضاعي ولا يصلح لما بعد الرأسمالية (للانتقال الاشتراكي والشيوعية). ولكن سرعان ما يتدارك كارشيدي فيوضّح لنا بأنّ: هذا لا يعني بأنّ التحقُّق (البيع) هو الذي يحدِّد طبيعة الإنتاج، بل التحقُّقُ يكشفُ تلك الطبيعة. فما يصبح مُتحقِّقاً لا بدّ أن يكون قد أُنتِجَ قبل ذلك. وما لمْ يتمّ إنتاجه لا يمكن أن يصبح مُتحقِّقاً.
ويشدّد كارشيدي: لاحظوا بأنّ الاستعمال العام هو الذي يكشف أيّ النوعَين من التغييرات هو الذي كان المُحدِّد. أمّا الاستعمال الشاذّ، فإنّه لا يغيّر مع ذلك من طبيعة عملية العمل (يفهم من كارشيدي أنه يشير هنا مثلاً إلى أنْ نستعمل أوراق كتاب لإشعال المدفأة بها بدل الاستفادة من المعلومات المكتوبة عليها). وقد يجادل المرء فيعتبر أنّ عمليّات العمل الموضوعية تُحدِّد تلك الذهنية أمّا العكس فغير صحيح. ولكنّ مثلما أنّ التغييرات الموضوعية أو الذهنية يمكن أن تكون هي المحدِّدة في عمليّة عملٍ ما، فإنّ كلّ واحد من نوعَي عمليات العمل يمكن له أن يلعب الدور المُحدِّد.
على سبيل المثال، بناء سدّ هو عملية عملٍ موضوعيّة تتطلّبُ (تحدِّدُ) توليد/تطبيق معرفة المهندسين؛ عملية عملٍ ذهني. ويصبح ذلك واضحاً إذا انفصلت عمليّةُ العمل تلك لتصبح عمليّةً مستقلّة على هيئة شركة هندسية تحتاج إلى إنشاء مقرّاتها الخاصّة بها.
إنّ عمليّة العمل الاجتماعيّة هي تضافرٌ لكلا نوعَي عمليّات العمل (الذهنية والموضوعية)، والتي يمكن فيها لكلٍّ من هذين النوعين أنْ يلعب الدورَ المحدِّد، ولكن ضمن كلّ نوع منهما يكونُ المحدِّدُ هو إمّا العملُ الموضوعي أو العملُ الذهني.

مَن هم «العاملون بأدمغتهم»؟

يستنتج كارشيدي بأنّ: العمّال الذهنيّين هم أولئك الذين تكون وظيفتهم المحدِّدة في عمليةِ عملٍ ما، هي أن يحوِّلوا القيم الاستعمالية الذهنية. وهم يستطيعون القيام بذلك إمّا ضمن عملية عملٍ ذهنية أو موضوعية. بينما حارس المنشأة مثلاً ليس عاملاً ذهنيّاً حتى لو كان يعمل لدى شركة ذكاء اصطناعيّ. وهذا التصنيف ليس تقليلاً من شأنه وضرورة عمله بوصفه من الطبقة العاملة ضمن «الكادحين بسواعدهم».

رأس المال و«تشفير» العمل الذهني

يُعتَبر «الفضول» من الدوافع المهمّة وراء عمل العمّال الذهنيّين، إضافةً إلى عوامل كالدَّخل والمكانة الاجتماعية وغيرها. ولكنّ فضولهم في ظلّ الرأسمالية يتمّ توجيهه من قبل آخرين بواسطة رأس المال. ومن الأمثلة المتعلّقة بهذا الموضوع، عمليات رَقْمَنَة وتشفير المعرفة، لأنها بذلك «يمكن امتلاكها ونقلها وتركيزها بسهولة» (كما أشار برينجولفسون 2022). وهي تشكل الشروط المسبقة لخصخصة المعرفة والإتجار بها، كما في حقوق الملكية الفكرية. وهذا من الأسباب الرئيسة وراء إصرار الرأسمالية على نخز العمّال الذِّهنين بمهمازها بشكلٍ حثيث لكي يقوموا برقمنة وتشفير المعرفة.

المعرفة الطبقية

لطالما كانت المعرفة ذات طابع طبقي في التشكيلات الطبقية السابقة، لكن نقتصر هنا على طابعها هذا في الرأسمالية. العمل فقط هو المنتِج للقيمة، ولكن جزءاً منها يستحوذ عليه رأس المال؛ هو القيمة الزائدة.
وبالمثل، فإنّ العمل هو المنتِج الوحيد للمعرفة، ويقتصر دور الرأسمال على إجبار العمّال الذهنيين على أن ينفقوا قوّة عملهم لوقت أطول من الوقت الضروري لتجديدها. ولكنّ للمعرفة ميزة خاصّة؛ إنها ليست شيئاً موضوعياً يمكن أخذه بعيداً. ورأس المال لا يملك فقط الوسائل الموضوعية للإنتاج الذهني (الكمبيوترات مثلاً) والمواضيع الذهنية للإنتاج الذهني (البيانات مثلاً)، بل ويملك أيضاً وسائل العُمّال الذهنية للإنتاج الذهني؛ ألا وهي المعرفة المحتواة في قوّة عمل العمّال. فقوّة العمل تقوم بتحويل كلٍّ من المعرفة الموجودة خارجها ومعرفتها هي بالذات. وهكذا فإنّ معرفة العمّال تُشكّل، في آنٍ معاً، الوسائلَ الذهنية للإنتاج الذهني والموضوعَ الذهني للإنتاج الذهني. وبكلمات تانر ميرليس (2019) فإنّ الشركات الخاصّة: «تملك المختبرات التي يجري فيها البحث والتطوير باستخدام العتاد الصلب الرقمي (الهارد-وير) والبرمجيات (السوفت-وير)، وتملك شبكات المصانع والمكاتب التي يتمّ فيها تجميع السلع والخدمات الرقمية، وتملك عُقَد التّجارة بالتجزئة التي يتمّ فيها تداول هذه السلع، وتملك قواعد البيانات التي يتم فيها تخزين المعلومات الرقمية حول المستخدِمين. إنّ رأس المال، وليس عموم الناس، هو الذي يسيطر على براءات الاختراع وحقوق النشر للابتكارات والتصاميم الرقمية... رأس المال يوجِّه ويدير أيادي وعقول هؤلاء العمّال لتحقيق أهدافه الخاصّة».
وهكذا فإنّ رأس المال عبر تملّكه لقوّة عمل العمّال المقصودين هنا، يتملّك الوسائل الذهنية للإنتاج الذهني (معرفة العمل/الطبقة العاملة). وبالتحديد يستطيع رأس المال أن يقرّر أيّة معرفةٍ هي التي ينبغي إنتاجُها، وكيف ينبغي أن تُنتَج، ومن أجل مَن – وبالطبع يسعى إلى إنتاج معرفةٍ تهدف إلى تعزيز مصلحته كرأسمال وليس مصلحة العمّال، وهما على طرفي نقيض: المبرّرات أو «الترشيد» أو «العقلنة» الخاصة برأس المال تسترشد بالاستغلال والمزاحمة وانعدام المساواة، بينما تلك الخاصة بالعمّال تسترشد بالمساواة والتعاون والإدارة الذاتية. تهدف الأولى إلى زيادة الأرباح بينما تهدف الثانية إلى إشباع حاجات العمّال. تقود الأولى إلى الأزمات والحروب وتوسيع هوّة التفاوت في مستويات المعيشة وتدمير الطبيعة، بينما تقود الثانية إلى إشباع الحاجات الإنسانية التي يعرّفها ويحدّدها المنتجون أنفسهم، في تناغم مع أنفسهم ومع الطبيعة. يكون لدى الفرد الواحد خليط «موزاييك» من كلتا المعرفتَين ولكنّ إحداهما تكون هي الطاغية (السائدة).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1120
آخر تعديل على السبت, 06 أيار 2023 21:38