الجديد التاريخي وصعوباته بين العام والخاص..
يبدو أنّ جديد المرحلة التاريخية التي نحن في أحشائها لا يزال في بداياته المتواضعة. ليس فقط على المستوى البعيد، بل على مستوى الحاضر أيضاً. وللانتباه، وحتى لا نقع في فخّ الميكانيكية والمثالية، نقول: إن الجديد هذا ينعكس ليس فقط ضمن القانون العام لهذه المرحلة، القانون الذي قد يبقى ثابتاً لفترة محددة، بل أيضاً ينعكس بظواهر جديدة حسب المسار الذي تأخذه الأحداث نفسها، في تسارعها أو بطئها، بمعزل عن قانونها العام. أي: في الصدف المتعددة، وتداخل تلك الصدف التي لا يمكن تحديدها إلّا عند حصولها. من هنا لا بد للفكر هذا ألّا يركن إلى سرديّة ثابتة، وإلّا تجاوزه الواقع في جديده الدائم. فكيف في هذه المرحلة التاريخية النوعية من عمر البشرية التي ولا بد أن جديدها كثير دفّاق!
أي: جديد نقصد؟
إن الجديد الذي حاولنا الإشارة إليه قد نمثله بسؤال: هل إن الموقع النوعي لهذه المرحلة التاريخية في تطور التاريخ البشري، أي: حجم التحول الذي تحمله، سيُلقي بوزنه على عملية التغيير ويحدد لها خصائص محددة؟ الإجابة وبكل بداهة ستكون: نعم. لنستكمل سؤالنا: هل كَون المرحلة تُعَبِّر عن أزمة على كل مستويات المجتمع الطبقي القديم- كَونها عملية قطع مع المجتمع الطبقي الذي طبع المجتمع البشري طوال الألفي سنة الماضية تقريباً- لها دور في تحديد خصائص عملية الإنتقال نفسها وتحديد الصعوبات التي ستواجهها حتى في صدفها؟ الإجابة مجدداً مفترض أن تكون بلا شك: نعم. حسناً، يمكن اشتقاق سؤال فرعي جديد استكمالي (للسؤال العام) لتوضيح فكرتنا، وهذه المرة في الخاص التاريخي: كيف يمكن أن ينعكس وزن المرحلة والأزمة الشّاملة التي تحملها على عملية التغيير في حالات خاصة من الصراع السياسي في مجتمع ما، أو في دولة ما، كدولنا تشهد حالة انفجار يختلف نسبياً عن المناطق الأخرى من العالم مرتبطة بخاصية دولنا وتطورها التاريخي، ومرتبطة أيضاً بتاريخ تطور الصراع السياسي فيها، متمثلة بتراثها الثوري وقواه، وببنية الدولة، أو الأزمة التي وصل جهاز الدولة إليها وتحلله؟
الموضوعي والذاتي
إن العام هو الوزن النوعي للمرحلة، ومدى عُمق الأزمة على كافة المستويات، وتأثير عقود الليبرالية على المجتمع والدولة. أما الخاص، فهو في مسار الصراع السياسي في بعض الدول التي كان لتطورها التاريخي تأثير على حاضرها، وعلى موقعها في الصراع العالمي الذي يختلف عن بقية الدول والمجتمعات. تعكس الأزمة الشاملة وحدّتها، في تلاقٍ مع موقعها الخاص في الصراع العالمي الذي تُكثّف فيه مجمل التناقضات العالمية، نقول: إنها تنعكس على تعقيد الصراع فيها، وهذا هو الجانب الموضوعي. بينما على المستوى الذاتي المتمثل في حالة قوى التغيير فيها والقوى البشرية التي يمكن أن تشكل تلك القوى، فإن تأثير التطور السابق على المجتمع وقوى التغيير ترك أثراً على مدى استعداد هذه القوى للتصدي لمهام المرحلة.
وفي تلاقي الموضوعي والذاتي في هذه المرحلة النوعية نحصل على خلطة يجب التوقف عندها.
التهتك وطول الأزمة
هنا تحديداً تبرز الطبيعة النوعية للمرحلة التاريخية وخصائصها. فقدرة العامل الذاتي على مجاراة الواقع لا يمكن أن تحصل إلّا خلال الحركة نفسها. فالحركة لا تُجدِّد نفسها قبلياً، بل في مجرى الصراع. فالقديم المنتمي إلى الفضاء القديم، وهو في موته مع موت الفضاء القديم يجب أن يفسح مكانه للجديد المنتمي للفضاء الجديد. حسناً، ما هي صعوبات الجديد هذا على الولادة ومجاراة الفضاء الجديد؟ وهنا نقول مباشرة: في دول لم تقطع فيها قوى التغيير شوطاً كافياً في مرحلة التقدم الثوري في القرن الماضي، وأمام الواقع المعقد والأزمة الحادة، فإن التهتك الذي يصيب المجتمع على كل المستويات المادية والمعنوية، وفي تلاقي هذا العامل مع حالة بطء انعكاس التحول الدولي العام، أي: في حالة طول الأزمة وتعمق الانهيار، فإن ولادة القوى السياسية الذاتية الجديدة أمامها صعوبات كبيرة.
إمكانية التنظيم والمثقفين العضويين للعملية الثورية
إن حالة التهتك المادية المباشرة التي تصيب المجتمع، وانهيار بنى الاقتصاد والدولة والعلاقات الموضوعية ضمن المجتمع، ستترك أثرها بلا شك على الوعي الاجتماعي لدى الفئات الحية، التي يمكن لها أن تساهم في ولادة العنصر الجديد الذاتي. فالمراحل الثورية السابقة في التاريخ كان للمثقفين العضويين فيها ارتباط بالطبقات الصاعدة. وكانت تلك الطبقات الصاعدة جزءاً من الحفاظ على المجتمع الطبقي نفسه، ونقصد مثلاً: مرحلة الثورة البورجوازية. أما في المرحلة الثورية الاشتراكية في القرن الماضي لم تكن الأزمة بهذه الحدة التي تعاني منها المجتمعات اليوم، وبالتالي كان هناك هامش تاريخي لحصول تلاقح للمثقفين العضويين مع الطبقات الثورية البروليتارية الصاعدة وقتها. إذاً، إن ولادة المثقف العضوي اليوم، الذي سيخرج من رحم العلاقات الليبرالية مهشماً، يحتاج هو نفسه إلى عملية انتقالية قد تأخذ وقتها، فهو سيخرج حاملاً بنية ليبرالية في استعدادها وخلفيتها، وهذا أولاً. أما ثانياً: فإن مدى التهتك الاجتماعي السياسي المعنوي سينتقل ليصيب الفئات الاجتماعية المختلفة، ما يجعل من وعي وإمكانية انتظام هذه الفئات في عملية سياسية منضبطة دونهما صعوبات يجب التوقف عندها.
حتى نُكثف، نقول: إن النقطة التي نشدد عليها هي: ممارسية مباشرة، مرتبطة بالقاعدة المادية لعملية الصراع السياسي والقوى الحاملة لها. فالمجتمعات التي تعاني أكثر من غيرها من التعفن على مستوى الدولة والمجتمع، كلبنان مثلاً، إن الانهيار الشامل فيها على مستوى الحياة اليومية على الرغم مما يحمله من إمكانات للتغيير، إلّا أنها تفرض صعوبات، هي تقنية في ظهورها، ولكنها تاريخية في أصلها. فالتعفن والتهتك القاعدي سينتقل بلا شك إلى الوعي الاجتماعي في هذه البنية، مما سيترك أثره على إمكانية انتظام هذه القوى وقدرتها على الحركة. لنتصور أن بلداً انقطعت فيه مصادر الطاقة والاتصال والتنقل والقدرة على الوصول إلى مصادر الغذاء والدواء وغيرها، كيف يمكن للقوى الاجتماعية فيه أن تنتظم في حركة جماهيرية واسعة في ظل فقدان مسبق لأطر اجتماعية منظمة؟ هي مسألة بهذا الشكل الملموس في نهاية المطاف. التنظيم وإمكاناته.
هذه الخلاصة ليست بأي شكل من الأشكال تؤدي إلى الاعتبار بأن عملية تطور الصراع السياسي في هذا البلد مثلاً، أو في غيره من البلدان التي تشبهه في حالتها الخاصة، مكتوب عليها الفشل مسبقاّ، بل يجب أن تتم ترجمتها إلى دروس نظرية وعملية، يمكن لها أن تدفع بمستوى من النضال لصالح مستوى آخر، وتقديم عامل على حساب عامل آخر. وحتى لا نكون متفائلين ساذجين، لا بد لهكذا بنى أن تتلقى المساعدة المباشرة من بنى أخرى. يأخذنا هذا النقاش إلى حالة حصلت في التاريخ، وعلى الرغم من حصولها وقتها بشكل غير معمم، ولكنها اليوم وبسبب من الطور الذي وصلته المرحلة الإمبريالية يمكن لها أن تصير ظاهرة عامة، ألا وهي المساعدة التي قدمها مثلاً الاتحاد السوفييتي لعمليات الصراع السياسي في بعض الدول على مستوى التقنية والكادر والخبرات والمساعدات العينية وغيرها. ولكنها اليوم أوسع بما لا يقاس. وعلى القوى الثورية في هكذا بنى أن تنتقل بنفسها إلى هذا المستوى من الذهنية والاستعداد. أي: إن الحركة الثورية في العالم اليوم لا يمكن لها إلّا أن تكون أممية في مسارها، ليس السياسي فقط، بل العملي المباشر. ما مررنا عليه هو طرح أقسى قد نشهده بشكله المتكمل وقد لا نشهده، ولكن دون شك هناك نسبة منه حاضرة ويجب الوقوف عندها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1012