آخر صرعات الموضة: كراهية الآسيويين!

آخر صرعات الموضة: كراهية الآسيويين!

ترددت طوال العام المنصرم دعابة سمجة تُكيل اللعنات لأول شخص آسيوي تناول حساء الخفافيش، وجلب بذلك وباء كورونا للعالم أجمع. وعلى الرغم من أن تلك العبارات كانت تقال بشكلٍ أو بآخر على سبيل المزاح، لكنها تعكس في العمق توجهاً عالمياً بدأ يتكرس حول كراهية الآسيويين، وتحميل الملايين منهم مسؤولية نشأة وانتشار فايروس كورونا. تبدو تلك الخرافة المتعلقة بحساء الخفافيش عصيّة على الزوال، لا تُسكتها التقارير والتحقيقات التي ما زالت عاجزة عن تحديد الزمان والمكان الفعليان لنشأة الفايروس قبل انتشاره في مدينة ووهان الصينية. وهذا أمرٌ ليس بالجديد، فالطاعون أو الحمى الإسبانية لم تكن إسبانية البتة، ومع ذلك فشلت عشرات السنين التي انقضت في تعديل اسمها.

فوبيا الآسيويين

بدأت وسائل الإعلام الغربية مؤخراً بالحديث عن تشكل تيار متنامٍ من فوبيا الأجانب وكراهية الأسيويين، الذي يزداد في شوارع المدن الغربية، وتحديداً أمريكا، إذ لا تتوقف حدة جرائم الكراهية عند حدود العنف اللفظي والشتائم والمضايقات، بل تصل إلى حد الأذى الجسدي، خاصة مع تسجيل أعداد متزايدة من حوادث الاعتداء التي تضمنت الضرب وكيل اللكمات لأشخاص من أصول آسيوية، كانت بعضهن نساء طاعنات في السن. تكلل كل ذلك العداء بحادثة إطلاق نار في ثلاثة مراكز للتدليك في منطقة أتلانتا في ولاية جورجيا الأمريكية، تركت ورائها 8 قتلى معظمهن نساء من أصول آسيوية.
كما يبدو، كان العام المنصرم عاماً ذهبياً بالنسبة لمروجي نظريات المؤامرة والتيارات المتعصبة للعرق الأبيض. عزز توجه هؤلاء المناخ السياسي في عدة دول أوروبية، إلى جانب صعود التيارات اليمنية المتطرفة وظروف الشحن والضغط النفسي التي تركتها تجربة الحجر الصحي والتهديد الاقتصادي الذي يعيشه كثيرون، فخرج كل ذلك على شكل موجات من التعصّب والكراهية. وكان لا بد من لوم أحدٍ ما على كل ما يحصل، لا بد من توجيه كل هذا الغضب نحو عدوٍ ما، واتفق الكثيرون على تسهيل المهمة على أنفسهم واعتبار العدو الجديد كل شخص يمتلك ملامح آسيوية.

الآخر الجديد

من اللافت للانتباه، أن عدد الحوادث العنصرية وكثافتها يتناسب طرداً مع كثافة التغطيات الإعلامية التي تدينها. أي: بكلمات أوضح يمكن القول: إن الإعلام لا يكاد يلعب دوراً إيجابياً على الإطلاق في التخفيف من تلك الجرائم، بل على العكس يبدو أن كثرة الكلام في الموضوع تزيد الطين بلة. كما لو أن الذين يمتلكون أفكاراَ متعصبة مسبقة يتشجعون في تحويل أفكارهم تلك إلى أفعال وسلوكيات عنيفة، مدفوعين بالحماس والشحن الانفعالي الذي تحفزه فيهم وسائل الإعلام، حتى حينما تُدين هذه السلوكيات وتندد بها.
ليس المقصود بذلك تشجيع التعتيم على حوادث من هذا النوع وتجاهلها من قبل الإعلام، وإنما المقصود تقديم نقد للطريقة التي يتعاطى بها الإعلام الغربي مع ظاهرة العنصرية ككل، وكيف يقوم بتحليلها، أو اقتراح الحلول للتصدي لها.
قلما يفطن الإعلام الغربي للسياق، فهو يتعامل مع موجات الكراهية هذه كلٌ على حدة؛ اليوم كراهية الآسيويين، وفي الأمس كراهية ذوي البشرة السوداء، وقبل ذلك كراهية المُنقبات والمسلمين. وكثيراً ما يُرجع كل موجة منها لأسباب مباشرة مختلفة، ويعالجها بصورة مستقلة، كأنها تحصل للمرة الأولى، دون أن يفطن إلى أن جذرها ومسبباتها في العمق واحدة.
لكن لفهم ما يحصل حقاً، يمكن اختصار حياة الدول الغربية بحبكة مبسطة تشبه إلى حدٍ كبير قصص الأطفال: «كان الرجل الأبيض، الغربي، يعيش حياة آمنة وهانئة، يمتلك عملاً مستقراً وفائضاً من المال، قبل أن يأتي الغريب ويخرّب عليه كل شيء». وهوية الغريب هنا مختلفة في كل مرة. في زمن الحرب الباردة كان الاتحاد السوفييتي مصدر الخطر، واستمر الأمر على تلك الشاكلة وقتاً طويلاً. ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر لتحدد هوية الغريب بالإرهابي المسلم، ومهدّت حوادث الاضطرابات في الداخل الأمريكي لتغيير لون بشرة وهيئة «الغريب» ليصبح الشخص الأسود الجاهل الذي يعيش في الضواحي الفقيرة، ولا يتوانى عن ارتكاب الجرائم والسرقة وافتعال المشكلات. أما اليوم فالإصدار الأحدث للغريب مصدر الخطر استقر على ذوي البشرة الصفراء الذين سيتم وسمهم لسنوات كثيرة قادمة باسم وباء كورونا.

يذكّر الكلام السابق بمقطعٍ كتبه زياد الرحباني في مسرحيته «شي فاشل»، حينما سخر من القرية اللبنانية الهانئة التي يأتي الغريب دائماً ليهدد وجودها. زياد رحباني سخر أيضاً من اختلاف وتغيّر هوية هذا الغريب في كل مرة. ولذلك يمكن القول: إن وجود «الغريب» أو «الآخر الجديد» كما تطلق عليه الكتابات الأكاديمية، جوهري جداً بالنسبة لجميع الأنظمة السياسية، وبالأخص للمنظومة الغربية في نطاق موضوعنا الحالي. لأن هذا الغريب هو مصدر التهديد والخطر ومنبع الخوف، وهو الشمّاعة التي تُعلّق عليه المشكلات، ومن أجل التصدي له تُشن الحروب، العسكرية منها والنووية والبيولوجية.
تستند منظومة الثقافة الغربية إلى معرفتها بوجود مخاوف دفينة لدى المجتمعات الغربية من خسارة المكتسبات والفوائد التي ضمنتها التشكيلة الاقتصادية السابقة. كما أن السواد الأعظم من الناس ضمن هذه المجتمعات كانوا يدركون بأن الحال لا يمكن أن يستمر كما هو، في حين تستأثر بلدانهم بالنسبة الأكبر من مقدرات الكوكب، وتترك الفتات لبلدان النخب الثاني والثالث. ولهذا هم دائمو الشعور بالتهديد والخطر، لأنهم يعلمون بأنهم يمتلكون الكثير كي يخسروه.
وبالتالي، لا يخفى اليوم على أحد: أن موجة كراهية الآسيويين وتحميلهم ذنب ما يحصل في العالم تخدم بصورة أو أخرى حرب الدول المهيمنة اقتصادياً ضد صعود الصين كقوة اقتصادية وسياسية. ليس الأمر نوعاً من المصادفة، فالتغيير المتوقع في المناخ الدولي كان يستلزم خلق فزّاعة جديدة تُرهب الناس وتهدد وجودهم. وصدف هذه المرة أن يكون لهذه الفزّاعة بشرة صفراء وعيون صغيرة ضيّقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1011
آخر تعديل على الإثنين, 29 آذار/مارس 2021 15:10