التوازن الجديد والأمن الغذائي العالمي

التوازن الجديد والأمن الغذائي العالمي

إن الإمبريالية فرضت تقسيماً عالمياً للعمل بين الدول، على مستوى الإنتاج الصناعي والزراعي، يضع مصالح الاحتكارات التجارية والمالية الكبرى في الأولوية. وهذا يعني إسقاط قضية إشباع الحاجات الأساسية للإنسان، ومن ضمنها: الغذاء الكافي للإستمرار، والأهم من أجل النمو الصّحي. فتم ضرب القطاعات المنتجة الحقيقية في أغلب دول العالم، إلّا بعض الدول التي قاومت هذا الاتجاه لخصوصيات تاريخية سياسية بارزة. واليوم، في ظل الأزمة التي يعيشها النظام العالمي وعلاقاته غير المتكافئة، والأدوات الجديدة للتفكيك والإخضاع والحصار والتدمير الداخلي، وفي ظل أزمة انقطاع سلاسل التوزيع والنقل بسبب الوباء العالمي كورونا، إضافة إلى الكوارث الطبيعية، تأتي قضية الأمن الغذائي كتهديد جدّي للمجتمعات.

أرقام الجوع العالمي

حسب أرقام منظمة الأغذية والزراعة (FAO) التابعة للأمم المتحدة، فإن نسبة انعدام الأمن الغذائي الحاد ارتفعت في الأعوام الخمسة الماضية بشكل بارز، من 7,9% من إجمالي عدد السكان العالمي، في العام 2015، إلى 9,7% (حوالي 700 مليون إنسان) في العام 2019. بينما 11% (حوالي 820 مليون إنسان) من سكان العالم يعانون من سوء التغذية بشكل عام (كان هذا الرقم حوالي المليار و100 مليون إنسان في بداية التسعينات)، ويزدادون سنوياً منذ الـ 2012- 2013 بشكل ثابت، فلقد ازداد الرقم حوالي الـ 40 مليوناً في السنوات الـ 5 الماضية فقط. وهناك شخص من بين أربعة أشخاص، أي: حوالي ملياري إنسان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل معتدل أو حاد.

وتتوزع نسبة الانعدام الحاد في الأمن الغذائي بشكل متفاوت، فهذه النسبة في الدول ذات الدخل المنخفض هي 25,3%، وفي الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى حوالي 12,5%، أما في الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى فهي 8,6%. وطبعاً، في الدول ذات الدخل المرتفع لا تشكل هذه النسبة سوى 1,8%. وتأتي القارة الإفريقية بالمرتبة الأولى عالمياً من حيث منعدمي الأمن الغذائي الحاد، بحوالي 21,5% (حوالي 277 مليون إنسان) مقارنة بباقي منطق العالم. أما وسط وجنوب آسيا فهي ثانياً بنسبة 14% (آسيا كلها تضم حوالي 353 مليون إنسان من منعدمي الأمن الغذائي الحاد)، و10% في أميركا الوسطى. ولا تتضمن أوروبا سوى 1%، وأمريكا الشمالية سوى 0,8%.

وحسب مؤشر الجوع العالمي الذي يتضمن حسابه: سوء التغذية، ووهن وهزالة الأطفال، ووفيات الأطفال، فإن إفريقيا الوسطى هي الأعلى بمستوى تحذيري مرتفع، تليها تشاد، زامبيا، اليمن، ومدغشقر، بمستوى تحذيري، وتأتي العديد من الدول الإفريقية جنوب الصحراء ودول جنوب وجنوب شرق آسيا بمستوى جدّي (ومنها: الهند، وأفغانستان، وبنغلادش، وباكستان، وإندونيسيا..)، وكذلك هناك العراق وغواتيمالا بمؤشر جدّي.

هناك إذاً أكثر من ملياري إنسان يعانون من معاناة وقلق لناحية القدرة على تأمين الغذاء الكافي، أي: 25% من عدد سكان الكرة الأرضية. خصوصاً أن انتقادات تصاعدت تجاه القوانين التي فرضت من قبل منظمة التجارة العالمية، انتقادات حتى من قبل منظمة الأغذية والزراعة العالمية (FAO) تجاه القوانين التي تضعف قدرة الدول النامية على حماية أمنها الغذائي.

الإنتاج الغذائي العالمي وخارطته

إذا أضفنا عامل المناطق الساخنة في العالم والاقتتال العسكري والتدخلات، إلى جانب قضية ضرب الإنتاج الحقيقي لصالح رأس المال المالي، وقطاعات الريوع عالية الربحية، فإن القدرة على تأمين الأمن الغذائي عالمياً لا تملكها اليوم أغلبية دول العالم، لناحية الزراعة والزراعة الحيوانية. وهي بحاجة إلى إعانات مباشرة من أجل منع الانزلاق إلى مجاعات فعلية. هذه المجاعات التي حصدت حسب الأرقام حوالي 130 مليون إنسان في الـ 150 سنة الأخيرة. لذلك إذا ما أخذنا طبيعة القضية المشتركة للبشرية، فإن الإنتاج الغذائي المطلوب لرفع مستوى الأمن الغذائي العالمي يتوزع عالمياً حسب الخارطة السياسية وتناقضاتها.

ونعتذر بداية عن العرض التفصيلي للإحصاءات، ولكن حسب هذه الأرقام العالمية أنتجت الصين في العام 2018 أكثر من نصف مليار طن (540) من الحبوب، تتضمن الأرز والقمح والذرة والشعير وغيرها، وهي النسبة الأعلى عالمياً. تليها الولايات المتحدة بحوالي 465 مليون طن، ومن ثم الهند بحوالي 261 مليون طن، وروسيا بحوالي 110 مليون طن، فالبرازيل بحوالي 100 مليون طن، تليها أوكرانيا والأرجنتين بحوالي 70 مليون لكل منها، وفرنسا وكندا بحوالي 60 مليون لكل منهما. وعلى مستوى إنتاج اللحوم ومشتقات الحليب، فإن حصة آسيا من قطاع اللحوم (المُقدّر بحوالي 342 مليون طن عالمياً) قد ارتفعت من 12% في الستينات إلى حوالي 45% حاليا (143 مليون طن)، بينما انخفضت حصة أوروبا وأمريكا الشمالية من 45% و25% إلى 19% (64 مليون طن) و15% (52 مليون طن) على التوالي. تليهما أمريكا الجنوبية بحوالي 46 مليون طن، وإفريقيا بحوالي 20 مليون طن.

وتتربع الصين هنا أيضاً في المرتبة الأولى عالميا بإنتاج اللحوم بحصة تساوي 88 مليون طن، تليها الولايات المتحدة بنصف النسبة (حوالي 45 مليون طن)، والبرازيل بـ 30 مليون طن، وأوروبا الغربية بـ 20 مليون طن، ومن ثم روسيا بـ 10 ملايين طن، تليها الهند بحوالي 7,5 ملايين طن، أما المملكة المتحدة واليابان فحصة كل منهما حوالي 4 ملايين طن، وإيران بحوالي 3 ملايين طن.

وعلى مستوى الثروة الحيوانية من الماشية في المزارع، فإن أعلى حصة هي للبرازيل (213 مليون رأس) والهند (184 مليوناً)، من ثم الولايات المتحدة (94 مليوناً)، والصين (63 مليوناً)، إثيوبيا (62 مليوناً)، والأرجنتين (53 مليوناً)، أما روسيا فتملك حوالي الـ 19 مليون رأس. وبما يخص الدواجن، فإن أعلى نسبة هي لدى الصين (6,4 مليار طائر!) وإندونيسيا (2,45 مليار) والولايات المتحدة (2,23 مليار) والبرازيل (1,5 مليار) وإيران (1,1 مليار)، وتأتي تالياً الهند (820 مليوناً) والمكسيك (580 مليوناً) وروسيا (541 مليوناً) وباكستان (527 مليوناً). أما في تربية الخنازير، فإن الصين مجدداً هي التي تملك أعلى نسبة، بحوالي نصف مليار رأس (447 مليوناً)، تليها الولايات المتحدة بـ 75 مليوناً، من ثم البرازيل بـ 42 مليوناً، فرنسا بـ 30 مليوناً، ألمانيا بـ 26 مليوناً، فيتنام بـ 28 مليوناً، وروسيا بـ 23 مليوناً. أما بما خص مشتقات الحليب فإن الهند (188 مليون طن) والولايات المتحدة (99 مليون طن) وباكستان (46 مليون طن) والصين (35 مليون طن) والبرازيل (34 مليون طن) وألمانيا (33 مليوناً) وروسيا (31 مليون طن) هي بالترتيب الأعلى عالمياً. ولا يختلف هذا الترتيب العالمي كثيراً من حيث إنتاج البيض.

الكتلة الآمنةّ!

على الرغم من كثرة الأرقام المعروضة أعلاه، إلا أن تكثيفها سياسياً يسمح لنا بالقول: إن هناك كتلة سياسية صاعدة لديها ما يكفيها من الأمن الغذائي، الذي يدعم دورها العالمي الصاعد، وإذا ما جمعت إمكاناتها في مجال الإنتاج الغذائي فإنها ستمثلً صمام أمان غذائي لنفسها وللعالم على المدى القريب، ألا وهي الصين وروسيا والهند والبرازيل بشكل أساس، أي: أغلب مكونات تجمع دول الـ «بريكس». وهذا ولا شك واضح مثلاً في الإمدادات الغذائية من قبل بعض هذه الدول للدول المتضررة والمهددة في أمنها الغذائي بسبب الأسباب المختلفة. ولكن منطق المعونات لا يكفي، بل إن دول العالم الباقية التي تعاني من تهديد غذائي عليها أن تتمكن من تحصيل أمنها الغذائي الوطني، إن كانت فيها أنظمة قادرة على تشكيل القاعدة المادية الاقتصادية والسياسية لهكذا مشروعات، تحتاج فقط لقرارات وإرادة وإجماع شعبي، والأهم: أن تَعبر من حالة التوترات والاقتتال التي تضاعف قضية الجوع والعوز.

معلومات إضافية

العدد رقم:
991