حكايات عن الشتاء والوحدة

حكايات عن الشتاء والوحدة

في المقهى جلسنا متقابلين في أمسية خريفية، وكنت تحدثني عن هرمون الدوبامين، ذلك واحدٌ من تلك الأحاديث العشوائية الذي يجد المرء نفسه في خضمّها دون أن يعلم ما الذي أوصله إليها أو كيف. شرحت لي كيف تقوم الخلايا العصبية في الدماغ بإفراز الدوبامين بعد الاستماع إلى مقطوعة موسيقية محببة، أو القيام بنزهة تحت أشعة الشمس. كان وجهك يكتسي بتعبيرٍ طفولي، وأن تتخيله ينساب في الجسد بحيث تضيق عيونك، وينفرج فمك عن ابتسامة مسترخية، وأنت تلفظ المقطع «مييين» في الدوبامين. أليس ذلك مثيراً للضحك؟ أن يرتبط شخصٌ حزينٌ مثلك، حتى النخاع، في ذاكرتي إلى الأبد بهرمون السعادة؟ 

مَسقطٌ علوي لغرفة جلوس

لنسترق النظر إلى صورة قديمة لغرفة معيشة في فصل الشتاء. هناك آرائكٌ وثيرة بألوان كامدة تتوزع عليها وسائد منتفخة وملونة، محشّوة بالقليل من الخزامى المجففة. أما الأرضية فمكسوة بموكيتٍ سميك يمتد على كامل البلاط، فرشت فوقه سجادة ملونة أو بساطٌ محاك يدوياً. وبالطبع لا تكتمل صورة غرفة المعيشة الشتوية دون مدفئة تشتعل بنار حمراء متوهجة.

في الغرفة، يُسمع صوت إبريقٍ ضخم يغلي برفقٍ على المدفئة، وضعت فيه أعوادٌ من القرفة وقطعٌ من الزنجبيل والخولنجان وبذور الينسون، أو إبريقٌ من الشاي مع الهال. رائحة المشروب، أياً كان تنبعث في كامل أرجاء الغرفة.

في الصورة، يقترب الأب من المدفئة، يضع إن كان البيع موسوراً في ذلك اليوم، بضع حباتٍ من الكستناء أو البطاطا الحلوة، ربما يُحمص رغيفاً من الخبز، أو يسخن شطيرةٍ من الجبن. أما الطفل فينثر ألوانه في إحدى زوايا الغرفة، ويكمل رسم لوحة عن فصول السنة، بينما تعيد الأم للمرة المئة فرط وشاحٍ صوفي وحياكته من جديد.

لنحاول الآن تثبيت تلك الصورة في الذاكرة، لأن تغيراتٍ ما.. ستحصل. بالطبع ستسترعي نظرنا بدايةً التغيرات في محيط المدفئة، رغم أن بعضها لم يكن ملحوظاً بالعين المجردة. نعم نقصت حبات الكستناء ثم اختفت، وبات الإبريق مليئاً بماء مغلي، والنار خفتت قليلاً بالطبع. أغمض عينك مجدداً وافتحهما على غرفة الجلوس ذاتها، ستلحظ أن مدفأة المازوت استبدلت بمدفئة كهربائية صغيرة في الزاوية. لكنها الآن مطفأة لأن تيار الكهرباء منقطع، ستسمع صوت شجارٍ بين الأب والابن، لحسن الحظ لن تراهم فالظلام دامسٌ.

في مشهدٍ جديد من شتاء جديد قد تبدو الغرفة أكثر اكتظاظاً؛ فكل فردٍ في العائلة لفّ نفسه ببطانية سميكة. أما الأرائك فتمت تغطيتها بشراشف ملونة قديمة لإخفاء القماش الممزق. افتح عينك مرة أخرى على شتاء جديد، ترى فيه أن مكان المدفأة الكهربائية فارغ، ربما بيعت في صفحة الأغراض المستعملة، وربما تم إخفاؤها عن الأنظار كي لا تثير مزيداً من الغضب. والآن افتح عينك للمرة الأخيرة، ستجد غرفةً شبه فارغة، لا رائحة لها أو مظهر، ستلحظ أيضاً، أن الناس اختفوا؛ الطفل الذي بات شاباً الآن، سافر ربما أو أنه يجوب الشوارع دون أدنى رغبة في العودة إلى البيت. الأب يحجر نفسه في غرفة النوم خوفاً من أن يكون قد التقط عدوى الوباء في دكانه الصغير. أما الأم التي نراها جالسة لوحدها، في زاوية الغرفة، بعد أن تضاءل حجمها بحيث باتت لا تُرى. نراها تجلس صامتة كتمثال، الأيدي فقط تتحرك بالكاد وتفرط خيوط صوفٍ من وشاحٍ قديم كي تعيد حياكته من جديد، بينما تسأل نفسها: متى توقفت عن حب فصل الشتاء.

أعجوبة في كأس

وقعت في غرام السحلب قبل عدة شتاءات مضت، مذ اشتريت ذات مرة ًكأساً ساخناً منه في طريقي إلى المنزل، دهشت يومها لاكتشاف تلك الأعجوبة المعبئة في كأسٍ من الكرتون المقوّى، مرشوشة بالقرفة تارةً وبجوز الهند المطحون تارة أخرى، أو متروكة كما هي؛ سحلب من أجل السلحب، ساخنٌ كعناق. فكرت كيف يمكن للبشر اختراع مشروبٍ بهذا الحنان، وكم نحن محظوظون حتى نجد هنا، في هذه البقعة التعسة من العالم، من يقدمه لنا على قارعة الطريق. لهذا تحديداً لم أفهم أبداً ذلك التعبير الذي ارتسم على وجه البائع، حين ذهبت إليه في يومٍ كنت فيه بردانةً جداً ووحيدةً جداً، وطلبت منه أن يملأ لي قربة الماء الساخن البلاستيكية، تلك التي أضمها عند النوم، بالسحلب حتى الامتلاء.

أعمال منزلية

كان قد انتهى للتو من تنظيف شقّته، نظّف كل زاوية فيها؛ وراء الأرائك، أسفل السرير، وخلف الأبواب. مذ أغلق الباب خلفه عند رجوعه من العمل، قرر نسيان الخارج بالكامل؛ أراد أن ينسى معركة الحصول على مقعد في الباص وأن ينسى تماماً أن منزله يقع في منطقة عشوائيات يبغضها ويجدها شديدة البشاعة بحيث يتمنى لو أنه يستطيع الخروج من منزله والرجوع إليه مغمض العينين كي لا يراها. "الخارج قذر" يردد في سره أما الداخل نظيّف وهذا ما يهم. يمرر الممسحة على البلاط للمرة الثالثة ويتمنى لو أنه يستطيع قصّ البيت ولصقه في مكانٍ آخر، مثل ملفٍ على سطح المكتب.

ها هو الآن وقد أنهى لتوّه تنظيف المنزل وصنع شاياً ساخناً يتلذذ به مع سيجارة، يصل إلى سمعه طرقٌ خفيفٌ على زجاج النافذة، لا بد أنها بدأت تمطر، أنه المطر الأول لهذا العام، ينصت السمع إلى صوت المطر محاولاً تذكر الاسم الصحيح للمطر الناعم في اللغة العربية، أكان يسمى ديم؟ أم مطرٌ نفناف؟ من أين جاءت هذه الكلمة الغريبة على أية حال، "نفنااف"؟! يقطع تأملاته اللغوية صوت المطر وهو يشتد ومن ثم يتلوه برقٌ ورعد، لا داعٍ لتذكر الكلمة الصحيحة، بات يسمى مطراً غزيراُ وفقط، الدنيا جن جنونها، وصوت المطر لا يهدأ، كما لو أن موسم الشتاء يفتتح فعالياته بأكثر صخبٍ ممكن. أخرجه من شروده خيط من الوحل اللزج الذي بدأ يسيل من شباك القبو إلى البلاط ويتسرب أسفل السرير. لم يحرّك ساكناً، وجلّ ما فكر فيه ألا خلاص؛ الخارج سيستمر في التسرب إلى الداخل حتى يغرقه تماماً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
991
آخر تعديل على الإثنين, 09 تشرين2/نوفمبر 2020 13:25