الزّمن المُفترِس والإنسان المهدور

الزّمن المُفترِس والإنسان المهدور

شكّل مفهوم الزمن والصراع معه مسألة ضاغطة للإنسان على مر التاريخ. ويختلف الموقف من الزمن حسب الموقع الاجتماعي الطبقي للإنسان، وشكل المعاناة الناتجة عن ضغط الزمن، ولكن بالرغم من هذا الاختلاف في زاوية الرؤية، فإن الجميع يطرح مسألة سيلان الزمن، تسارعه أو بطأه، ضياعه أو استثماره. 

وهذا الموقف هو في صلب الصراع مع النظام الاجتماعي ومع الطبيعة في آن. وكل مرحلة تاريخية ونظامها الاقتصادي السياسي تطرح قضية الزمن بشكل متمايز، ولكنها جميعها تتكثف في فكرة أن: القديم يصارع من أجل بقائه، والجديد يصارع لكي يولد. وما بين الاثنين إما يحترق الزمن مليئاً بالانهيارات والانغلاق ويفلت من سيطرة الإنسان النسبية عليه، أو يكون حافلاً بالنقلات النوعية لصالح التقدم وجعل حياة الإنسان أكثر غنى، وأوسع مدى، عبر قبض الإنسان عليه نسبياً وتوظيفه لصالحه. فالصراع ضمن الرأسمالية مثلاً هو في ذات الوقت صراع مع الوقت لكل القوى المتناقضة، قوى التقدم وقوى الموت. والأهم، ونتيجة لهذا الانقسام بين الأقلية المجرمة والأكثرية المتضررة، إن البشرية كلها تصارع الوقت، واحتمالات ضياع الطبيعة وشروط الحياة الممكنة على الأرض، وضياع تماسك الدول والمجتمعات.

الموقف النقدي وقاعدته المادية

قدرة الإنسان على اتخاذ موقف نقدي من أية ظاهرة هي عندما تضطرب علاقته بهذه الظاهرة وتقف هذه الظاهرة نفسها موقفاً معادياً للإنسان الفرد، وتصير مؤلمة له. أي: إذا ما واجهت علاقته بها اختلالاً أو شابها دمارٌ ما. ويختلف الموقف النقدي وشموليته إذا ما كانت الظاهرة التي يعيشها الإنسان أكثر شمولية وتأثيراً عليه. فإصابة المجتمع مثلا باهتزازات وانهيارات كبرى تضع الإنسان أمام أزمة وجوده الكلية، أي: تهديد حياته وبقائه، تهجيره وتشريده، خسارته لأحبابه ولمنزله.. عندها يقف موقفا نقدياً من الحياة كلّها ويُجبر على تقييم «وجودي».

وهذا حصل دائماً خلال التاريخ البشري في شكله الشامل، لا في حدود دولة ما أو مجتمع محدد. وها هو الانهيار اليوم يحصل على مستوى شامل مجدداً واضعاً القوى الاجتماعية كلها أمام التهديد الوجودي، فلا ينحصر بطبقة ما تشهد مرحلة انحدارها التاريخي. كيف وهذه اللحظة التاريخية تحصل في مرحلة كسبت فيها القوى المتضررة قدرات ذهنية أوسع مما كانت تملكها القوى المقهورة في التشكيلات الطبقية السابقة على الرأسمالية. فالموقف من الزمن والإحساس الشامل به لم يعد محصوراً بنخب كانت تشكل على مدى التاريخ فئة العمل الذهني، وهذا له دوره في تفعيل وحشد ورفع موقف هذه القوى عبر توظيف موقفها من الزمن ربطاً بالموقف من الرأسمالية والصراع معها.

هذا التوظيف ضروري في ظل فساد النخب الثقافية عالمياً وتلوثها الليبرالي وتوظيفها المضاد لقضية الزمن، وتحويلها إلى قضية تأملية عدمية، تستعيد فيها الموقف المثالي والرجعي التاريخي حول مسألة الزمن، وإبعادها عن كونها قضية صراعية مع النظام الرأسمالي الهدّام.

وهذا يتطلب ضرورة استعادة المُنتَج الأدبي والثقافي المتعلّق بمسألة الزمن، وتطويرها الإبداعي، لتصير أداة الوعي في تملّكه لصراعه مع الوقت، وتوظيفها لصالح قضية التغيير. وهذا الصراع له عدة أشكال كما قلنا، وكلها تتموضع تحت بندين، الأول: هو الصراع مع النظام وهدره للحياة الفردية وحريق الوقت. والثاني: هو الصراع مع الطبيعة، أي مع قدرة الجسم البشري الفيزيولوجي على أن يحافظ قدر الإمكان على استمراره، وإطالة أمد الحياة قدر الإمكان، هذا الأمد الذي ارتفع تاريخياً كلما تحسنت الظروف المعيشية للإنسان، ولكن هذه المرة سيدخل العلم بكل قوة إلى حلبة الصراع مع الوقت، عبر توظيف العلوم وتحديداً علوم الخلايا والجينات لمنحها قدرات تجدد أكثر.

من الأدب العالمي حول الزمن

من هذا المنتج الأدبي الذي يمكن استعادته لمراجعة مفهوم الزمن، هي المادة الشعرية حول صراع الفرد مع الهدر الحاصل للحياة وسيلان الوقت، وتناقض الحياة أمام الموت المادي والمعنوي على حد سواء. هذه المواد التي تعبِّر عن مواقع صراعية تجاه الواقع، إما بالمعنى المحافظ، او بالمعنى الثوري. فالحقبة الرومنسية مثلاً، والمواقع الرومنسية للوعي، كونها رد فعل على انهيار المجتمع القديم الاقطاعي، وانهيار علاقاته ونمط حياته، شكلت مرحلة خاصة بمواجهة التحولات السريعة، وفيها ظهر الزمن كالمسار المجرّد فوق الأحداث، يُقلِق الفرد وينبهه إلى وجوده المحدود.

حيث يعتبر شكسبير- في السوناتا الـ 19: «الزمن المُفترس»- أن الزمن يلتهم كل شيء، حتى تلك الأساطير الخالدة، كطائر الفينيق نفسه. وكموقف صراع صريح، يطلب شكسبير من الزمن ألّا يرتكب جريمة التهام ملامح الشباب و«لا ترسم خطوطاً هناك بقلمك العتيق» في تعبير عن صراع شكبير نفسه مع الزمن. ومعروف المضمون النقدي لإنتاج وليام شكسبير (بمعزل عن حقيقة شخصيته التاريخية) تجاه المجتمع الرأسمالي المتشّكل، والذي كله شرور وبشاعة، واستعارات ماركس الواضحة منه خير دليل، وعلى ضرورة توظيف الشعر والاستعارات في القضايا المطروحة. فشكسبير المولود في القرن السادس عشر، في المملكة المتحدة، شاهدٌ على تهتك المجتمع القديم الإقطاعي، «مجتمع النبلاء والفضيلة الشجاعة والفروسية» وتبلور مجتمع الطمع المالي للرأسمالية وشرورها.

روبرت هنريك (1674-1591)، بريطاني ومعاصر لشكسبير، يُعبِّر في أعماله عن تيار «انتهاز الفرصة» أو «اغتنام اليوم» المعبّر عن القول اللاتيني (Carp Diem) المقتبس من أعمال الشاعر الروماني هوراس (23 قبل الميلاد)، حيث كانت مرحلة تصاعد التناقض في العصر العبودي وقتها. ويشير هذا التيار إلى ضرورة اغتنام الفرد للوقت في حياته لا أن يهدرها.

نموذج آخر، هو توماس هاردي، إنجليزي بدوره، عايَشَ مراحل الرأسمالية في توسعها اللاحق في القرن التاسع عشر، وشهد انحدار الطبقات الزراعية. ومن موقع الرومنسية عالج قضية الزمن في أعماله، فيقول في قصيدة «أنظر في زجاجي»: «ولكن الزمن، يجعلني أحزن، يسرق قطعاً، ويترك أخرى، ويهز الإطار الهش من عشية...»، ويوصف هاردي بأنه عانى من الدونية الطبقية في علاقته بالمدينة، والانقسام الطبقي الحاد فيها. معاصر لهاردي هو: توماس ستيرنز إليوت (1965-1888)، بريطاني حاز على جائزة نوبل في الأدب عام 1948، أمريكي المولد. شكل الزّمن مسألة مركزية في بعض أعماله، وتحديداً الصراع المعبر عنه في تناقض الزمن المتسارع ،والقبض على اللحظة وعيشها، الوجود واللا وجود، الثبات والحركة، ما يعكس صراعاً مع الزمن المتسارع للعصر الرأسمالي، وتحديداً الأزمة التي عصفت في العقود الأولى من القرن الماضي. ويقول في قصيدته «بيرنت نورتون» (سنة 1935) أن «كل الوقت لا يمكن تعويضه... ما كان يمكن حصوله هو تجريد، ويبقى إمكانية دائمة، فقط في عالم من التكهنات... اذهب اذهب اذهب قال العصفور، الإنسان لا يمكن أن يحتمل كثيراً من الحقيقة..»

الزمن والصراع معه حضرا في شعر بيرتولد بريخت كذلك، ومحمود درويش، وفي شعر «الصعاليك» وتعبيرهم عن تناقضات المجتمع القبلي المتصاعدة، والخلاص من تقييد الزمان ومحدودية المكان.

هذه المواد وغيرها لا يجب أن تخدم الفكر السائد والدفع نحو العدمية والترفّع والزهد، أو الانغماس باللحظة. بل يجب أن تخدم مواجهة محاولات الرأسمالية إطالة الأزمة، وتأجيل التحول، ضد طموحات البشرية وتوقها لكي تتملك حياتها، وتوقف هدرها، في ربط العلوم بالتغيير السياسي. العلوم التي ستكون لها حصة كبرى في المجتمع القادم، حيث سيكون تطويع جلالة الوقت، وإطالة الحياة البشرية موقعاً أساساً فيها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
992