محمود درويش وسليم بركات: مَنْفَيان ومنفِيّان في لعبة المرايا المتقابلة
يقف الشاعر سليم بركات شاهقاً، وطيّ ضميره عالم كرديّ لا يريد أن يكون مجرد أقلية، بل يتطاول بكل ما فيه من شبق الحياة، وليؤكد أنه عالم حي، وأقل تفصيل منه كينونة تستحق التحليق، على عكس ما يريد وعينا العروبي السائد، هذا الذي لا يفعل شيئاً سوى أن يلغي، ويشطب، غير مبالٍ بكل ما فعله المشترك الإنساني، بين الشعبين في التاريخ.
أما سليم فلم يكن إلا هو، المبدع شعراً والمنفي دوماً في الحياة، وفي النص، وهو بكلمة واحدة، الهادم، لكنه بنى على أنقاض ما قوضه لحظة جديدة وبكراً، في الكتابة الشعرية المغايرة،، منظماً بألق كلماته إلى الكبار، مباشرةً، وبجدارةٍ لا تليق بغير الفاتحين والمؤسسين.
كتب (سليمو) كما يسميه الأكراد، قصيدة غير مسبوقة، بمواصفات جمالية خاصة، حققتها المزاوجة بين إرث اللغة العربية، وبين حاضر إنسان هذا العصر، وبذلك أنقذ اللغة من مأزق فوات أوانها، بعدما صار كتاب لسان الضاد، يتذمرون منها ليغطوا عيوب جهلهم بها.
بفضله، اكتشفت العربية واكتشفنا نحن مكامن سرية للجمال الخفيّ، ومساحة للتعبير الإنساني الحر للغاية عن الذات، والآخرين، والعالم، هذا عدا الفعل الثقافي الفريد الذي يضاهي الجمالي جمالية وإنسانية، بما تجلى، للمرة الأولى، في القران الرائع، والتلاقح الخصب، ما بين الثقافة الكردية واللغة العربية.
ولا يقل عن الشعر، ما فعله في الرواية، فهو الذي كتب روايات وضعته في واجهة الروائيين العرب: (فقهاء الظلام) و(الريش) و(أنقاض الأزل الثاني) و(كهوف هايدر هودهوس)... وقد عبّر عن علاقته بكلّ من الشعر والرواية قائلاً: (الشعر يسرق من الحياة مفازاتها، والرواية تفضح المشهد: أحدهما كثيفٌ كعدم، والآخر شهواني في ملهاة. الشعر كتوم، والرواية ثرثرة كالحقيقة، وكلاهما يفضي إلى الآخر كاعتذار الحياة إلى نفسها عن كونها حياة).
لكننا هنا، سنبقى على خط الشاعر، لئلا يتشعب الموضوع بما لا تقوى عليه هذه السطور.
منافٍ تلو مناف، تلك كانت حياة سليم بركات، منذ مأزقه الوجودي ككردي يكتب بالعربية، إلى رحلاته التي بدأت في بيروت ونيقوسيا، ولم تنته في استوكهولم، القصيدة منفى، والآخر منفى، والمكان منفى، ولا وطن، وكأن هوية الشاعر تكمن في هذا القلق في اللا إقامة والا استقرار، لكنها بالمقابل تظهر في نصه الشخصي الذي يشي بأنا شاسعة كالمكان الذي حمل رموزه ومجازاته في الجسد والذاكرة.
في البحث عن صورة سليم بركات، تأتي قصيدة محمود درويش (ليس للكردي إلا الريح) المنشورة في ديوانه (لا تعتذر عما فعلت)، تأتي... كما لو أنها أيقونة شعرية، تكرم الرجل المظلوم مرتين، مرة لأنه كردي منع من نعته، ومرة لأن شعره اتهم بالاستغلاق والإبهام، كما تقدم، من جهة أخرى، رؤية لسليمو (الذي يكتب العربية أفضل من العرب) كما يقول درويش في مكان آخر.
سبق لصاحب (سرير الغريبة) أن تحدّث عن عداوة الشعراء وصداقة الشعر، لكنّ هذه القاعدة تختص بالأقزام، أولئك الذين يكاد الجمود يكون صفتهم الوحيدة، أما في عالم الشعر الكبير، فهناك تتجلى صداقة كونية، تتخطى حواجز اللغات والقوميات، وتتجاوز مراحل الزمن، تحت راية جمهورية الشعر، وفي هذا السياق تبدو حالة درويش وبركات مثالاً ساطعاً، فهي انطلقت من صداقة الشخص إلى صداقة النص، وبالعكس.
(ليس للكردي إلا الريح) قصيدة استعداية، تنطلق من حالة نوستاليجية، ترغم الشاعر على فعل الكتابة إيذاناً لأمر حنينه الذي يشب لاهباً، وفي تفاعل كيميائه، يكتب درويش مسافراً في تضاريس بركات إنساناً وشاعراً، ولكنه يكتفي بلقطة مقربة للأخير أيام إقامته في قبرص. العنوان يلامس واقع الأكراد بصدق، في وحشتهم الطويلة، ما بين وطن ممزق ومناف لا أول لها، فهو يعلن وبسخرية مريرة، عن وجود نصير، ولكن يا للمأساة! ليس النصير سوى الريح.
يذهب الشاعر عميقاً.. عميقاً في الشاعر، من خلال التفاصيل البسيطة والسهلة التي يعيشها كإنسان، ملامساً باشتباكها المعقد خصوصية عالمه، لنرى في المرئي المتاح، اللامرئي الغامض والبعيد في صاحب (الجمهرات) و(الكراكي) و(المعجم)....
يقول درويش:
(منزله نظيفٌ مثل عين الديك/منسي كخيمة سيد القوم الذين/تبعثروا كالريش، سجادٌ من الصوف المجعد. مخدات مطرزة بإبرة/خادم المقهى. سكاكين مجلخة لذبح/الطير والخنزير. فيديو للإباحيات./باقاتٌ من الشوك المعادل للبلاغة./شرفة مفتوحة للاستعارة.)
يتحول صاحب القصيدة إلى ما يشبه رساماً للبروتريهات، فهذا، كما هو معروف، لا يرسم وجهاً، إلا ويترك شيئاً منه فيه، والشبه الكبير بينهما هنا، هو أن الاثنين جعلاً من المكان زماناً، وسكنا منفى اللغة، بحثاً عن الوطن والهوية، وفيما بعد علق محمود بسؤال البيت والطريق إليه، وسليم استمسك بعروة اللغة، كي يصنع معجماً خاصاً به، لكنهما فيما قبل، بنيا الوطن المفقود، من شظايا الوطن الموجود، حتى غدا كأنه (وطن الرؤى السماوية) باستعارة عنوان إبراهيم الكوني، أو (أرض الكلام) باستعارة عنوان آخر لممدوح عزام، وهكذا ولدت جغرافيا مضادة، بفضل ما لديهما من فقه بعلوم المكان:
(لن أحب الأرض أكثر/أو أقلّ من القصيدة، ليس/للكردي إلا الريح تسكنه ويسكنها/
وتدمنه ويدمنها، لينجو من/صفات الأرض والأشياء.)
الكردي لم يهرب من نفسه، إنما اشتغل على توسيع مساحة الحلم، ممدداً أناه بالشعر، لتكون الهويةو الاختيار الحرّ، لا في قسرية الأقدار، يقول سليم في حوار مع جريدة الحياة يعود إلى 22/6/1998م: (ذهبت في اتجاه شريك منعني عن اللغة الكردية فذهبت متسامحاً بلغته، التي هي اقتداري في تدبير حريتي في بلاغتها، وتدبيري هويتي في نبلها الأعمق، مستغلاً، استغلال العاشق تواطؤها مع أعماقي على تدبير المعنى الذي يستحقه كردي في الإشارة إلى دجاجات أمه وتبغ أبيه.) ودرويش الذي يفهم معنى ما يشكله الكلام السابق، عانى، مثل صديقه مأساة أخرى، استطاع باللغة أن يملحهما، وأن يرأب بها صدوع ذاته. يقول:
«باللغة انتصرت على الهوية،/قلت للكردي، باللغة انتقمت من الغياب».
ومن جهة أخرى يوحّد بين اللغة وصاحبها، يخلطهما معاً، بحيث يصيران ذاتاً.. كينونة:
«هويتي لغتي أنا.. وأنا./أنا لغتي. أنا المنفي في لغتي./وقلبي جمرة الكردي يفوق جباله الزرقاء».
وفي أكثر من مكان في القصيدة الدرويشية يقارب صاحب (سرير الغريبة) الذات الجماعية للأكراد، من خلال سليم طبعاً، وتبدو صورة الأكراد مطابقة لصورة الفلسطينيين، وهنا تتسع المرأة الشعرية، وتتداخل الصورتان معاً ضمن ذات الإطار، فالفلسطينيون من مادة الألم ذاتها، التي كان الأكراد منها، إنهما في الحقيقة، اثنان في واحد، كما تقول الدعاية التلفزيونية، ودرويش الذي وصفهم مرةَ:
(مأساة النرجس، ملهاة الفضة) مثلهم تماماً، مثل الأكراد، في المصير السيزيفي داخل لعبة الأقدار العابثة، حين يتطابقون مع الأكراد في قصيدة (ليس للكردي إلا الريح) إذ صورتهم كالتالي:
(الكرد يقتربون من نار الحقيقة/ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء).
القصيدة الدرويشية لا تريد اختصار التاريخ، في قراءة مضادة، فجلّ همها القبض على لحظة شخص، هو في الحقيقة أشخاص، من قبل شخص آخر، هو أيضاً أشخاص، كان بركات سبقه وكتب قصيدة عنه ضمتها مجموعته (البازيار):
(... وبالذي فيه من نايات الرخام، التي تتقدم السكينة إلى ميراثها، يطوق الخرائب المتألقة في غضبها، والألق ذاته الممسك بفرشاة الدهان ليرسم مآذن العشب وقباب الندى. ويدل الشهود الذين يجرون الشهود من الأكتاف، على المشهد، ماسحاً نظارته من ضباب المكيدة، ليبتسم أكثر...).
لا أدري إن كانت كتابة كهذه رسم بورتريه كلمات، أو أنها مرايا متقابلة، أو نحت لتمثال نصفي في اللغة..!