عدائية الولايات المتحدة تجاه أمريكا اللاتينية من بوابة فنزويلا
ديمة النجار ديمة النجار

عدائية الولايات المتحدة تجاه أمريكا اللاتينية من بوابة فنزويلا

تقدّم استراتيجية الأمن القومي الأمريكي خطة عدوانية واضحة اتجاه أمريكا اللاتينية، التي وضعتها الوثيقة في صدارة أولوياتها تحت مسمّى نصف الكرة الغربي (الأمريكيتين). ويكتسب هذا المحور أهمية مضاعفة في ظل تصاعد الخطاب العدائي، وقرع طبول الحرب ضد فنزويلا، إلى جانب التهديدات المتكررة التي تطال محيطها الإقليمي، ولا سيما كولومبيا.

أمريكا اللاتينية في استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية


تنص استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الحالية، تحت بند «ماذا نريد في العالم وماذا نريد منه؟»، على العودة إلى التمسّك بمبدأ مونرو، الذي أُعلن عام 1823 تحت شعار «الأمريكيتان للأمريكيين»، بذريعة منع عودة النفوذ الأوروبي إلى أمريكا اللاتينية. غير أن هذا المبدأ تحوّل سريعاً إلى أساس للهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي.
ومع تطوّره التاريخي، أُضيفت إلى مبدأ مونرو متممات عدّة، عكست تحوّلات السياسة الأمريكية؛ أبرزها: متمم روزفلت عام 1904، الذي منح واشنطن حقّ التدخل بذريعة «سوء السلوك المزمن» وممارسة ما سمّاه «سلطة الشرطة الدولية». وخلال الحرب الباردة، أعيد توظيف المبدأ لمنع التمدد الشيوعي، ما قاد إلى تدخلات مباشرة وغير مباشرة، من بينها الانقلاب على سلفادور أليندي في تشيلي، ومحاولات متكررة للتعدي على كوبا.
اليوم، وفيما يسمى «متمم ترامب»، تفترض الولايات المتحدة أن لها حقّاً في الوصول إلى ثروات أمريكا اللاتينية، سواء برضى الدول المعنية أو بالضغط، مع إنكار حق هذه الدول لتقرر فيما إذا كانت تريد أن تقيم علاقات مع منافسي الولايات المتحدة الدوليين كروسيا والصين. إذ تقول استراتيجية الأمن القومي صراحة: «نريد نصفَ كرةٍ غربي يظل خالياً من أي توغّل أجنبي معادٍ أو من امتلاك جهات أجنبية لأصول حيوية، ويدعم سلاسل الإمداد الحيوية ونريد أن نضمن استمرار وصولنا إلى المواقع الاستراتيجية الرئيسية». ورغم أن هذا التوجه يعكس وضوحاً النية لاستنزاف دول أمريكا اللاتينية اقتصادياً، إلا أن الاستراتيجية تؤكد أنهم لن يسمحوا لسكان تلك البلدان المتضررين بالهجرة شمالاً حيث سترسو ثرواتهم المسروقة. فالاستراتيجية الأمريكية تؤكد على منع «الهجرة الجماعية» من دول جنوب القارة. وتسعى لتمكين حكومات «متعاونة» بزعم المساعدة في «مكافحة الإرهاب المرتبط بالمخدرات والجريمة».


مبدأ مونرو يصطدم بمبدأ بوليفار 


تُعدّ كوبا وفنزويلا من أكثر الدول مقاومةً للهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية. وفي فنزويلا، أيد الشعب هوغو تشافيز والثورة البوليفارية إيماناً بأفكار سيمون بوليفار، الشخصية التاريخية التي لعبت دوراً محورياً في استقلال فنزويلا وكولومبيا والإكوادور وبيرو وبوليفيا، وله مكانة في وجدان شعوبها. وتتعارض رؤية بوليفار جذرياً مع مبدأ مونرو ومتمّماته، إذ دعا إلى حماية السيادة الوطنية والتحرر من سلطة الخارج، وإلى وحدة دول أمريكا اللاتينية باعتبارها الشرط الأساس لقوتها وقدرتها على الدفاع عن استقلالها. في المقابل، قام مبدأ مونرو تاريخياً على تفكيك المنطقة وإبقائها ضمن مجال النفوذ الأمريكي، عبر سياسة «فرّق تسد»، لا سيما في منطقة تراها واشنطن «حديقتها الخلفية».

فنزويلا على رأس قائمة الاستهداف


ليست محاولات الولايات المتحدة للإطاحة بالحكم في فنزويلا أمراً جديداً، فقد جرّبت واشنطن على مدى سنوات جميع أدوات الضغط، من العقوبات الاقتصادية والحصار إلى محاولات الاغتيال، وصولًا اليوم إلى التلويح بالتدخل العسكري المباشر. ويأتي هذا التصعيد في لحظة تشهد فيها الولايات المتحدة تراجعاً حاداً في مكانتها العالمية، ما يجعلها تنظر إلى الحرب على فنزويلا باعتبارها ضرورةً واستثماراً جيوسياسياً ذا عائد مرتفع.
نفط فنزويلا ربما يكون أهم أسباب العداونية الأمريكية تجاهها. ففنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، يتجاوز 300 مليار برميل، أي أكثر من السعودية، فضلاً عن قربها جغرافياً من الولايات المتحدة. والسيطرة على نفطها، ولو بشكل غير مباشر عبر حكومة دمية، تتيح لواشنطن أداة ضغط هائلة على خصومها. فإذا تمكنت الولايات المتحدة، وهي اليوم أكبر منتج للنفط عالمياً، من التحكم بالنفط الفنزويلي عبر شركاتها ودفع حكومة فنزويلية موالية لها إلى الخروج من أوبك، فإن ذلك سيؤدي إلى إضعاف تحكم أوبك في ضبط الأسعار، لصالح واشنطن التي ستصبح قادرة على إغراق سوق الطاقة أو خنقه وفقاً لمصالحها السياسية. وهذا من شأنه التأثير على أمن الطاقة الصيني، وتعزيز الضغط على روسيا وإيران والسعودية ودول الخليج. ومن الواضح أن ماريا ماتشادو، التي وُهبت جائزة نوبل للسلام، وتدعو الأمريكان ليل نهار للتدخل في بلدها، ستقوم فيما إذا استلمت الحكم بتهميش شركة النفط الوطنية، وفتح قطاع الطاقة للشركات الأمريكية وعلى رأسها إكسون، وستتخلى عن منطقة إيسيكويبو الغنية بالموارد والمتنازع عليها بين فنزويلا وجارتها غوايا.
ليست فنزويلا إلا المقدمة لمزيد من الاعتداءات الإقليمية، خاصة على البلدان ذات الحكومات اليسارية. وتبدو كولومبيا، بقيادة الرئيس اليساري غوستافو بيترو المرشح التالي. فقد بدأت إدارة ترامب بإطلاق تهديدات مباشرة لكولومبيا، في محاولة للضغط عليها كي تنأى بنفسها عن دعم فنزويلا التي تمتلك معها أطول حدود، وللتأثير في المزاج الشعبي الكولومبي قبيل الانتخابات الرئاسية في أيار 2026، بهدف إضعاف فرص مرشح اليسار. أما البرازيل، جارة فنزويلا الأخرى، فقد عبرت عن امتعاضها ورفضها لأي تدخل عسكري أمريكي في أمريكا اللاتينية. 
إن اتساع دائرة المتضررين من أي حرب على فنزويلا دولياً وإقليمياً قد يكون العامل الأهم الذي يجعل واشنطن تتردد، ففنزويلا ليست وحيدة. وقد طلبت فنزويلا رسمياً من منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) التدخل. ومع أن أوبك لم تصدر رداً رسمياً إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر لنظيره الفنزويلي مادورو في اتصال عن دعمه لفنزويلا وسيادتها، خاصة بعد دخول «اتفاق الشراكة الاستراتيجية والتعاون» بينهما حيز التنفيذ رسمياً الشهر الماضي. 
في المحصلة، من دون تغيير الحكم أو التدخل البري المباشر، لن تستطيع الولايات المتحدة السيطرة على نفط فنزويلا. وحتى في حال التدخل البري، فإن التكلفة العالية، والمقاومة الشعبية، والرفض الإقليمي تجعل النجاح شبه مستحيل. وتبقى أمام فنزويلا، ومعها دول أمريكا اللاتينية، فرصة حقيقية الآن لمواجهة هذا الخطر عبر الاستفادة من غيرها من التجارب، ومحاصرة الفساد الداخلي الذي تستغله واشنطن كمدخل رئيسي لكل أشكال التدخل الخارجي. فالأوليغارشيات أوطانهم في جيوبهم، أما الذين لا وطن لهم سوى بلادهم، فهم وحدهم القادرون على الدفاع عنها. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1256