لماذا تريد أمريكا إخضاع أوروبا؟
مايكل هدسون مايكل هدسون

لماذا تريد أمريكا إخضاع أوروبا؟

أعتقد، أنه يمكننا أن نسمي الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ عام 2022 حرباً أمريكية ضد أوروبا، لأنّ الخاسرين الكبار كانوا ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبقية دول أوروبا. أدركت الولايات المتحدة أن الحرب قادمة لا محالة، وقررت أنه إذا كان من المقرر أن تندلع حرب بين حلف الناتو وبقية دول العالم، فمن الأفضل لها أن تبدأ بتعزيز سيطرتها على أوروبا باعتبارها سوقاً مربحة ومديناً لها، بدلاً من أن تتجه نحو آسيا، وتخسر ​​أمام الولايات المتحدة.

ترجمة: قاسيون

في الأساس، يعترف الاستراتيجيون الأمريكيون بأنهم يدركون أنّ أمريكا لم تعد قادرة على إنتاج فائض صناعي حقيقي. فقد أدت سياستها التجارية النيوليبرالية إلى نقل صناعتها إلى آسيا. إنّ السوق الجديدة الوحيدة التي يمكن تأمينها إذا انفصلت الأغلبية العالمية هي السوق الأوروبية. يفسّر هذا لماذا رتبت الولايات المتحدة لتفجير خط أنابيب نورد ستريم، وأقنعت أوروبا طواعية بارتكاب التدمير الذاتي اقتصادياً، من خلال عدم شراء الغاز والنفط والمواد الخام الروسية منخفضة السعر. وفي حين دفع هذا روسيا والصين إلى التقارب مع جيرانهما الآسيويين، فإن الخاسرين كانوا أوروبيين.
لقد انتقلت الصناعة الألمانية من البلاد إلى الولايات المتحدة وأماكن أخرى، بحثاً عن الطاقة الأقل تكلفة. وقد هاجرت الصناعة الألمانية إلى حد كبير إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي جعلها المستفيد الأول. وإذا كنت مكان شركة صناعية ألمانية، فماذا ستفعل إذا كان اقتصاد ألمانيا ينكمش؟
إذا نظرت إلى إنتاجية العمالة على مدى المئة عام الماضية، فسوف تجد أنها تسير بالتوازي مع استهلاك الطاقة لكل عامل. إن الطاقة هي المفتاح الحقيقي. لهذا السبب كان الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية منذ عام 1945 هو السيطرة على البلدان الأخرى بطريقتين، بدءاً بالنفط. فقد سيطرت الولايات المتحدة، إلى جانب بريطانيا وهولندا، على تجارة النفط العالمية، حتى يتسنى لها قطع الكهرباء وإطفاء الأنوار عن البلدان التي تحاول الانفصال عن أمريكا والعمل وفقاً لمصالحها الذاتية.
وإلى جانب النفط، فإن التكتيك الثاني الذي استخدمته أمريكا هو السيطرة على الحبوب والغذاء، لترك البلدان المستقلة تموت جوعاً في الظلام. ولكن هنا مرة أخرى، كانت العقوبات تهدف في المقام الأول إلى جعل أوروبا تعاني.
منذ 1958 كان الهدف الأهم بالنسبة للجماعة الاقتصادية الأوروبية من التكامل هو حماية المزارعين. مكّن دعم أسعار المنتجات الزراعية من زيادة الاستثمار الرأسمالي في المزارع. عملت أوروبا على ترشيد زراعتها وزيادة الاستثمار الرأسمالي لجعلها أكثر إنتاجية. وكانت النتيجة أن أوروبا لم تستبدل اعتمادها على صادرات الأغذية الأمريكية فحسب، بل أصبحت أيضاً مصدراً رئيسياً للمنتجات الزراعية.
لكنّ الاتحاد الأوروبي الموسع يعاني الآن، ليس فقط بسبب العقوبات المفروضة، وليس فقط على استيراد الغاز الروسي لصنع الأسمدة، فمن خلال دعم أوكرانيا، تسمح أوروبا لها بإغراق أسواقها الزراعية المنخفضة التكلفة بالحبوب في بولندا وغيرها من البلدان. قام المزارعون بالفعل بتنظيم أعمال احتجاج على بيع الأوكرانيين لمنتجاتهم الزراعية بأسعار أقل من أسعارها الحقيقية ــ حيث يحاول المستثمرون الأمريكيون شراء هذه الأراضي. قد يؤدي هذا إلى تراجع الاستقلال الزراعي الأوروبي، وجعله يعتمد مرة أخرى على الولايات المتحدة، أو على البلدان التي يسيطر عليها المستثمرون الأمريكيون.
كان تأثير الحرب «الباردة الثالثة» حتى الآن هو دفع أوروبا إلى العودة إلى المدار الأمريكي. تصرّ الولايات المتحدة على أنّه لا يوجد بديل لهذه الجغرافيا السياسية النيوليبرالية. الهدف هو السماح للرأسمالية بالتطور إلى رأسمالية احتكارية، وهي في الحقيقة رأسمالية مالية، لأن الاحتكارات ينظمها القطاع المالي باعتبارها «أم الصناديق».
ورغم أن الولايات المتحدة قالت: إنه لا يوجد بديل، فمن الواضح أن هناك بديل. لكن إذا لم تتبع الدول بديلاً، فسينتهي بها المطاف لتصبح مثل ألمانيا. الواقع أنّ ما حدث لأوروبا نتيجة للحرب في أوكرانيا والعقوبات الأمريكية يشكل درساً مفيداً للدول الأخرى لكي تدرك ما لا تريد أن يحدث لها.
انهار البرنامج النيوليبرالي في الغرب كما انهار منذ فترة طويلة بالنسبة للجنوب العالمي. وكان هدفه الأساسي هو خصخصة القطاع العام. مع ذلك، فقد تم تمويل انطلاق الرأسمالية الأوروبية لقرون من قبل الرأسماليين الصناعيين أنفسهم، الذين كانوا يهدفون إلى خفض تكلفة الإنتاج، حتى يتمكنوا من بيع منتجاتهم بأسعار أقل من البلدان الأخرى من خلال دعم الحكومة لتكوين رأس المال الحقيقي.
كانت الاستراتيجية الأساسية للرأسمالية الصناعية تتلخص في أن توفر الحكومات التعليم والصحة العامة والبنية الأساسية التي كانت لتحتكرها أيدي القطاع الخاص لولا ذلك. كانت الحكومات تثقّف العمال وتدربهم وتساعدهم على رفع إنتاجيتهم من خلال حماية ودعم الاستثمارات الرأسمالية. كانت الحكومات توفّر المياه والكهرباء بأسعار مدعومة، حتى لا يضطرّ العمّال إلى إنفاق أجورهم لشراء الطاقة الباهظة الثمن ووسائل النقل الباهظة الثمن والاحتياجات الأساسية المماثلة.
كانت النتيجة خفض تكاليف التعادل في العمالة، بحيث أصبح بوسع الصناعيين الأوروبيين والأمريكيين بيع منتجاتهم بأسعار أقل من البلدان الأخرى. أنهت النيوليبرالية هذه الاستراتيجية الاقتصادية الواضحة ظاهرياً. إن هذه الرسوم المفروضة على أصحاب الدخول تستنزف الآن جزءاً كبيراً من ميزانية العمال الأوروبيين. يجعل هذا أصحاب العمل يدفعون أجوراً أعلى. بوسعنا أن نقول الشيء نفسه عن خدمات الهاتف وغيرها من مرافق البنية الأساسية التي أصبحت الآن مخصخصة وممولة.
إن خصخصة خدمات الهاتف والاتصالات التي كانت مدعومة في السابق تجعل العمال يدفعون أجوراً أعلى كثيراً. والنتيجة هي تقليص الأجور، ولكن أيضاً تقليص الأرباح بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وممارسة الأعمال في اقتصاد يعتمد على الريع.
منذ عام 1980، انقلبت الصورة النمطية الأوروبية ـ أو بالأحرى صورة الرأسمالية الصناعية ـ رأساً على عقب. فبدلاً من أن تحاول الرأسمالية الصناعية خفض تكاليف الإنتاج، وتقليص ما أسماه ماركس بالتكاليف الزائفة، أو ضرائب الإنتاج الزائفة، ارتفعت الأسعار التي تفرضها احتكارات البنية الأساسية المخصخصة إلى مستويات مرتفعة للغاية. وتعرضت مستويات معيشة العمال في مختلف أنحاء أوروبا للضغط، في الوقت نفسه الذي كان لزاماً فيه زيادة أجورهم حتى يتمكنوا من تحمل تكاليف الخدمات المخصخصة، التي كانت في السابق خدمات عامة مدعومة. أدّى اتباع النموذج النيوليبرالي إلى جعل أوروبا غير قادرة على المنافسة، تماماً كما أدى إلى نزع الصناعة من الاقتصاد الأمريكي.
كان الدرس الذي تعلمته الصين من هذه التجربة هو ضرورة تبني الاشتراكية لاستعادة الأخلاق الصناعية التي سادت في القرن التاسع عشر، والتي اعتقد أغلب المراقبين الاقتصاديين أنها كانت تقود إلى نوع أو آخر من الاشتراكية. لقد ارتفعت مستويات المعيشة في الصين، ولكن الأجور هناك أقل من الأجور في الاقتصادات النيوليبرالية، وذلك بفضل حقيقة مفادها: أن الاشتراكية توفر وسائل نقل رخيصة، ورعاية صحية عامة، وما إلى ذلك، كما هو موضح أعلاه.
والأمر الأكثر أهمية من كل هذا، هو أن الصين الاشتراكية تخلق أموالها الخاصة، وتتحكم في نظامها الائتماني. وبدلاً من قيام بنك الصين بإقراض الأموال للمفترسين الماليين لشراء الشركات وتحميلها بالديون ودفع أسعار أسهمها إلى الارتفاع قبل تركها في صورة شركات مفلسة، تنفق الحكومة الأموال مباشرة في الاقتصاد.
استثمرت الصين بشكل مفرط في الإسكان والعقارات، ولكنها استثمرت أيضاً في تحديث خطوط السكك الحديدية عالية السرعة، وتحديث نظام الاتصالات، وتحديث مدنها، وفوق كل ذلك نظام الإنترنت الإلكتروني المستخدم للمدفوعات النقدية. لقد حررت الصين نفسها من اعتماد الديون على الغرب- وفي هذه العملية، جعلت الغرب معتمداً عليها. إنّ هذا لم يكن ليتحقق إلا من خلال الاستثمار الحكومي والتنظيم في إطار خطة طويلة الأجل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1186
آخر تعديل على الخميس, 08 آب/أغسطس 2024 21:16