التفريط بـ«الخطوط السورية»: نموذج آخر عن بيع التاريخ والمستقبل!

التفريط بـ«الخطوط السورية»: نموذج آخر عن بيع التاريخ والمستقبل!

عندما قاتل قادة الاستقلال الوطني السوري الاحتلال الفرنسي على امتداد النصف الأول من القرن العشرين، كانوا يخوضون هذا القتال وفي قلوبهم حلم ببناء وطنٍ حر يتمتع أبناؤه بخيراته، ودولة قوية بمؤسسات قوية تؤمِّن الكرامة لأبنائها. ومن يقرأ في مذكرات وتصريحات هؤلاء الرموز يدرك أنهم كانوا على دراية يقينية تامة - حتى بعد نيل الاستقلال - بأن الاستعمار لن يكف عن محاولة العودة مراراً وتكراراً لمنع الاستقلال الحقيقي ولمنع قيام مثل هذه الدولة ومثل هذه المؤسسات. لكن ربما لم يتخيل أحد منهم أن يوماً سيأتي وستجري فيه هذه العملية بأيادٍ «سورية» تعاود الكرّة مرة تلو أخرى للتخلص من مؤسسات الدولة وتصفيتها قسراً، حتى وإن كانت رابحة.

قبل عام من الآن، وتحديداً في تموز 2023، أثار الإعلام ضجة كبيرة حول عملية خصخصة جديدة تستهدف جزءاً آخر من أجهزة الدولة السورية، وهي مؤسسة «الخطوط الجوية السورية». وفي ذلك الحين، أثارت التفاصيل المتعلقة بهذه العملية ومستوى الاستخفاف الذي شعر به الكثيرون ردود أفعال متباينة في حدتها، ولكن معظمها يتفق على أن العملية تستهدف بشكل أساسي مصالح السوريين وتسلب منهم إحدى مؤسساتهم التي دفعوا ثمن بنائها وتشغيلها للاستفادة منها.

1185b 

الإعلان رسمياً: ما الجديد الآن؟

في تصريحٍ لإحدى الصحف المحلية، يوم الأربعاء 24 تموز، كشفت تصريحات المدير العام للخطوط الجوية السورية، حاتم كباس، أن الضجة التي أثيرت العام الماضي ليست مجرد شكوك وأن الفكرة انتقلت إلى حيز التنفيذ «قريباً جداً». حيث توقع أن تبدأ الشركة الخاصة التي تم توقيع العقد معها لإدارة تطوير واستثمار «الخطوط الجوية السورية» خلال شهر، موضحاً أن الشركة الخاصة (التي لم يسمها) سوف «تدير التخطيط والتنظيم فيما يتعلق بالطيران، وذلك من خلال العمل على زيادة عدد أسطول الطائرات وتحسين الرواتب للموظفين وبناء هنكارات ومعدات أرضية جديدة، إضافة إلى تطوير الخدمات التي تقدم داخل الطائرة وغيرها من البنود التي وردت في العقد الموقع معها». وخلص كباس إلى أن الشركة الخاصة هي التي سوف تدير التطوير والتنظيم والاستثمار «في كل الأمور المتعلقة بالطيران» وفق ما ينص عليه العقد. أي أن الحديث لا يدور عن مطار واحد فقط، بل جميع عمليات التخطيط والتنظيم والإدارة في كل ما يتعلق بالطيران المدني».

1185a

الاستهتار بالسوريين: «لا حق لكم بمعرفة المعلومات»

واحدة من أكثر الأشياء التي تثير الاستياء في هذه الخطوة أنها تجري بطريقة لا يمكن وصفها إلا بأنها تسيء للشعب السوري ولا تقيم له وزناً. وسنكتفي بذكر نقطتين فقط في هذا الإطار:
أولاً: حتى الآن، لم تعلن الحكومة ولا أي مسؤول رسمي في الدولة بشكلٍ صريح عن هوية «الشركة الخاصة» التي ستتولي زمام واحدة من أقدم مؤسسات الدولة السورية تحت شعار «الإدارة والاستثمار»، ولم تعلن الحكومة عن هذا الاستثمار في الإعلام سابقاً. ولم ترد في الصحف والإذاعات والتلفزيون أية تصريحات حكومية عن طرح «الخطوط الجوية السورية» للاستثمار. وتكتفي بـ«التسريبات» التي تقوم بها بعض المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي غير الرسمية والتي توصف بأنها «مقربة من دوائر صنع القرار»، ذلك رغم أن القوانين تؤكد أنه لا يجب أن يقل عدد الجهات المقدّمة على أي عرض استثمار تعلنه الدولة عن 3 جهات، ويجب أن يعاد الإعلان أكثر من مرة حتى يتحقق ذلك.
ثانياً: الأمر ذاته ينسحب على بنود العقد، حيث لم يتم التصريح رسمياً عن بنوده الكاملة، بل اكتفت التصريحات الرسمية بالإضاءة على بعض البنود الثانوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، في مقابل إحاطة البنود المهمة بطوق من الكتمان مثل: حصة الشركة الخاصة التي ستقوم بالاستثمار والتشغيل وآلية التوزيع، وتُركت هذه البنود لتتناقلها المواقع والصفحات شبه الرسمية و«تسربها» للسوريين «بالقطارة».

«تسريبات» الصحف والمواقع «غير الرسمية»

أمام هذا التكتم الرسمي، ليس أمامنا سوى مناقشة ما «سربته» الصحف والمواقع غير الرسمية وشبه الرسمية والتي أكدت بعضها أن الشركة الخاصة هي ذاتها شركة «إيلوما للمساهمة المغفلة الخاصة» التي لا تملك تاريخاً سابقاً في مجال الطيران ولا غيره، وظهر اسمها فجأة العام الماضي عندما صدّقت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على النظام الداخلي للشركة التي يبلغ رأسمالها رسمياً نحو 7000 دولار أمريكي فقط لا غير.
وبحسب «التسريبات»، يشمل العقد «زيادة عدد طائرات الأسطول إلى 20 طائرة بنهاية مدة الاستثمار المحددة بـ20 عاماً، إضافةً لإنشاء مطبخ جديد بطاقة إنتاجية تصل إلى 10 آلاف وجبة يومياً، وتجهيز مركز تدريب وفق المعايير الدولية». ولإنجاز ذلك «ستضخ الشركة خلال هذه الفترة - أي 20 عاماً - استثمارات قدرها 300 مليون دولار»، وأن «حصة الحكومة من العقد المبرم 25% من الإيرادات وليس الأرباح، على أن تزيد في النصف الثاني من مدة الاستثمار إلى 32.5%».

1185d

السؤال البديهي: لماذا؟!

رغم أسطول الطائرات القليل، بلغت تقديرات أرباح مؤسسة الخطوط الجوية السورية في عام 2021 حوالي 129 مليون دولار من عمليات النقل داخل سورية فقط (دون حساب عائدات عمليات النقل الخارجية وعائدات تموين الطائرات واستقبال الركاب وجميع الخدمات الأرضية)!
وإذا أمسكت شركة «إيلوما» - أو أياً كان اسم الشركة الخاصة - بالمؤسسة، فهذا يعني أنها ستستولي على 75% من الإيرادات في السنوات العشر الأولى و67.5% في السنوات العشر التالية، مقابل أن تضخ سنوياً 15 مليون دولار وسطياً فقط. وكما ذكرنا سابقاً، وعلى سبيل المقاربة، يبلغ وسطي السعر العالمي لطائرة Airbus A340-300 الموجودة لدى أسطول الطائرات السوري 219 مليون دولار. وبكلامٍ آخر، إذا حدث هذا الاستثمار، فستكون شركة «إيلوما» استثمرت وربحت مبالغاً هائلة خلال عشرين عاماً مقابل ثمن طائرة وثلث..
السؤال الطبيعي هو لماذا لا تقوم المؤسسة نفسها، التي أظهرت أنها قادرة على تحقيق أرباح تصل إلى حوالي 129 مليون دولار (على الأقل، ومن العمليات الداخلية فقط، وفي سنة واحدة فقط) بذلك؟ ما الذي يمنعها من تخصيص 11.6% من أرباحها لعمليات التطوير والصيانة والشراء؟ ما الذي يمنعها من استثمار أكثر إذا كانت رابحة والاستثمار فيها سيزيد من إيرادات الدولة؟ ومن ثم تستطيع أن تجني - بمفردها - ثمار الأرباح الناتجة عن عمليات التطوير؟ هذا بغض النظر عن أن بعض الاقتصاديين يقدرون أرباح مطار دمشق الدولي وحده بحوالي 450 مليون دولار سنوياً!
وفي هذا السياق، نستنتج - بناءً على أدنى التقديرات التي لا تعكس حجم الربح الحقيقي - أن أرباح المؤسسة خلال 20 عاماً ستكون ما بين 2.5 مليار دولار (إذا اعتمدنا تقديرات ربح المؤسسة لعام 2021) و9 مليارات دولار (إذا اعتمدنا تقديرات ربح مطار دمشق الدولي فقط). وهذه الأرباح ستتخلى عنها المؤسسة مقابل نسب ضئيلة من الإيرادات السنوية ومبلغ ضئيل للاستثمار.
ثم يأتيك من يتحدث من المسؤولين «بعين قوية» عن عجز الموازنة وضعف إيرادات الدولة! إن النتيجة المباشرة لانسحاب الدولة من لعب دورها الضروري في حماية المؤسسات الرابحة ودعم المؤسسات الخاسرة للنهوض هي تخليها الفعلي عن مصادر الإيرادات التي تحتاجها لتمويل الإنفاق. هذه هي الحجة ذاتها التي سيضطر السوريون إلى سماعها عندما يتخذ أصحاب القرار في البلاد خطوات جديدة نحو رفع الدعم.

1185c

لزوم ما لا يلزم في الرد على فكرة الملكية و«الإدارة فقط»

يصرّ المسؤولون حالياً على التركيز على الجوانب الثانوية، مثل تكرار أنه لن تحدث أي تغيرات على اسم «السورية للطيران» أو شعارها بل إن المؤسسة سوف تحافظ على كل ما يتعلق بدلالتها باعتبار أن دور الشركة الخاصة هو «الإدارة فقط»، وأن التغير هو فقط في الإدارة ولا يعني أبداً أن «الخطوط الجوية السورية» باتت ملكاً للقطاع الخاص.
وكأن مشكلة المواطن السوري هي اسم «الخطوط الجوية السورية» أو شعارها! ما يهمه فعلياً هو لمن تعود أرباح هذه الشركة خلال فترة الاستثمار؟ وهل سيجري تبديد مصدر جديد من مصادر إيرادات الدولة؟ ثم إن كون الشركة الخاصة ستقوم بـ«الإدارة فقط» دون حيازة ملكية «الخطوط الجوية السورية» لا يطمئن أحداً، لأن الجميع يدرك في سورية أن من يملك زمام الإدارة قادر على التحكم بكل شيء، بما في ذلك التلاعب بالإيرادات والأرباح بهدف تقليص حصة الدولة. والأهم من ذلك أنه لا يوجد مبرر منطقي واحد يدفع بعرض الشركة على الاستثمار ولا سيما بهذه الطريقة المهينة للسوريين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1185
آخر تعديل على الإثنين, 05 آب/أغسطس 2024 12:29