الحكومة تعترف بتوزيع «الكعكة  السورية»: 90.2% للأرباح و9.8% للأجور!

الحكومة تعترف بتوزيع «الكعكة السورية»: 90.2% للأرباح و9.8% للأجور!

يواجه الاقتصاد السوري أزمة حادة تجعل من الصعب على السوريين تلبية احتياجاتهم المعيشية الضرورية. فالإنتاج المحلي لا يكفي فعلياً لتغطية احتياجات السكان. لكن الأسوأ من ذلك هو التوزيع المجحف وغير الإنساني للموارد السورية القليلة المتاحة الذي يزيد من حدة التناقض الطبقي والظلم الاجتماعي في البلاد. فرغم أن توزيع الدخل والناتج حول العالم يتسم بعدم العدالة في كثير من الأحيان، إلا أن الحالة في سورية تتسم بظلم استثنائي فريد من نوعه ولا يطاق.

يعرف السوريون عبر تجربتهم ومعاناتهم اليومية أن هناك ظلماً كبيراً في توزيع الثروة في بلادهم، لكن غالباً ما تظل الأرقام الدقيقة لهذا الظلم مجهولة بالنسبة لهم. يعود ذلك إلى الطوق المحكم المفروض على البيانات الوطنية في سورية، مما يجعل الحصول على المعلومات والأرقام مهمة شبه مستحيلة في ظل غياب الأرقام الرسمية والإعلانات الدورية عن تحديثات هذه البيانات، لهذا، يجد المواطن السوري نفسه محاطاً بحجاب من الغموض الذي يمنعه من فهم مدى التفاوت الحقيقي في توزيع الثروة.

ما هي حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي؟

في ظل غياب الأرقام الرسمية، ليس في مقدورنا سوى الاعتماد على تقديرات المؤسسات الدولية للناتج المحلي الإجمالي السوري، ففي عام 2023، قدّر البنك الدولي هذا الناتج بنحو 6.2 مليار دولار. في المقابل، تقدّر مؤسسات الأمم المتحدة عدد السكان داخل سورية خلال الربع الأول لعام 2023 بنحو 16.76 مليون نسمة.

وبعملية قسمة بسيطة، يظهر لنا أن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هي نحو 369.9 دولار للفرد سنوياً.
بالمقارنة مع عام 2011 فإن متوسط حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سورية كان يبلغ 2,700 دولار سنوياً، ما يعني أن حصة الفرد داخل سورية قد تراجعت بنحو سبع مرات ونصف خلال 12 عاماً، ذلك رغم تراجع عدد سكان سورية من أكثر من 22 مليون نسمة إلى 16.76 مليون نسمة.

154 دولار لعائلة تحتاج بالحد الأدنى إلى 554.3 دولار!

المقارنة الأهم في تقييم حصة الفرد السنوية هي في قيمتها الفعلية وقدرتها على تأمين احتياجات المواطن داخل بلاده. فمع افتراض أن دخل الفرد السنوي يبلغ 369.9 دولار، وبتقسيم حصة الفرد السنوية على عدد أشهر السنة، يتبين أن حصته الشهرية لا تتجاوز 30.8 دولار، أي ما يعادل حوالي 452,760 ليرة سورية. وإذا كانت الأسرة تتكون من خمسة أفراد ويحصل كل فرد منها على 452,760 ليرة شهرياً، فإن إجمالي دخل الأسرة الشهري يبلغ 2,263,800 ألف ليرة (نحو 154 دولار).

لكن هذه القيمة تعد أقل بكثير من المبلغ المطلوب لتأمين الحاجات الأساسية للأسرة: وفقاً لآخر حساب أجراه «مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة»، فإن الحد الأدنى لتكاليف معيشة أسرة سورية مكونة من خمسة أفراد يعادل 8,148,347 ليرة سورية (نحو 554.3 دولار شهرياً)، أما وسطي تكاليف المعيشة فيصل إلى 13,037,356 ليرة سورية (نحو 886.8 دولار شهرياً)، ما يعني أن حصة العائلة من الناتج المحلي الإجمالي لا تغطي سوى 27.7% من الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة، و17.3% من وسطي التكاليف.

هذا يعني أن الناتج السوري السنوي، أي ما تنتجه البلاد من قيم اقتصادية جديدة سنوياً، هو قليل بشكلٍ كارثي. وعلى افتراض أنه تم توزيع هذا الناتج بالتساوي وبالعدل على كل السوريين الموجودين داخل البلاد، فإنه عملياً لن يكون كافياً لتأمين دخل يلبي الاحتياجات الضرورية للأسر، فكيف الحال ونحن نعلم أن هذا الدخل المحدود يوزع بطريقة مجحفة وغير عادلة على نحو استثنائي؟

1186-1

الحكومة تعترف بإجحافٍ غير عادي

مؤخراً، أصدرت هيئة التخطيط والتعاون الدولي التابعة لرئاسة مجلس الوزراء في سورية «الاستعراض الوطني الطوعي الثاني عن أهداف التنمية المستدامة - 2024» والذي أفصح عن بعض الأرقام التي لم يكن قد جرى تحديثها منذ زمن بعيد (بعض الاقتصاديين المتحمسين ينظر إلى مجرد نشر هذه الأرقام بوصفه إنجازاً على طريق الشفافية، علماً أن ملاحظات كثيرة يمكن وضعها حول هذه الأرقام وطرق حسابها وغياب المهم منها، لكن سنترك نقاش هذه المسألة ربما لمقال لاحق).

ما يهمنا هنا هو الرقم الذي أعلنته الهيئة في «استعراضها» حول حصة العمل من الناتج المحلي الإجمالي، أي حصة أصحاب الأجور من الناتج، والتي أكدت أنها لم تتجاوز 9.2%. بعبارة أخرى، فإن حصة أصحاب الأرباح تصل إلى 90.8%.
بالعودة إلى تقديرات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، والبالغة نحو 6.2 مليار دولار، فإن حصة أصحاب الأجور الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من المجتمع السوري لا تتجاوز 570 مليون دولار، بينما تتجاوز حصة أصحاب الأرباح 5.6 مليار دولار!

سورية حالة استثنائية في القهر الاجتماعي اللاإنساني

المفارقة هي أنه حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، معقل السياسات الرأسمالية المتوحشة، فإن حصة العمل من الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 60%. أما الوسطي العالمي لهذه النسبة فهو 53.8% أي ما يقارب ستة أضعاف النسبة في سورية.
ويمكننا أن نلقي نظرة على هذه النسبة في بعض الدول لنستدرك حجم الظلم الجائر الذي يرزح تحته السوريون: تركيا 35.7%، العراق 45.3%، الأردن 45%، لبنان 46.3%، مصر 43.6%، الجزائر 39.5%، روسيا 54.3%، إيران 39.8%.
ويجدر التذكير بأن حتى هذه النسبة التي تعلنها الحكومة مشكوك في صحتها، فقد جرت العادة على تضخيم رقم حصة العمل بشكلٍ لا يعكس حقيقة الإجحاف في توزيع الثروة. إذ يُعتمد في إعداد هذه الأرقام على معايير وطرق حسابية لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة الأمور على الأرض.

1186-2

وعند النظر إلى التطور التاريخي لهذه النسبة، وفق ما تدعيه الحكومة، نجد أن حصة العمل من الناتج المحلي الإجمالي شهدت تراجعاً مستمراً على مر السنين. ففي عام 2010، ووفقاً لـ«الاستعراض الوطني»، كانت حصة العمل تبلغ 30.2%، ومع تصاعد الأزمة في البلاد، انخفضت هذه النسبة بشكل كبير إلى 15.5% في عام 2013.

وفي عام 2015، سجلت النسبة ارتفاعاً طفيفاً إلى 16.6%، ثم في عام 2017، وصلت حصة العمل إلى 21.9%، وهو ما يمكن اعتباره ذروة قصيرة الأمد في هذا الاتجاه التراجعي. حيث عادت النسبة لتتدهور مرة أخرى، فوصلت إلى 16.6% في عام 2020، تلاها انخفاض آخر إلى 14.9% في عام 2021.

وأخيراً، شهد عام 2023 انخفاضاً حاداً إلى 9.2%، مما يُظهر جزئياً مدى تفاقم الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه السوريون. حيث يعكس هذا الانخفاض المستمر على مدى السنوات تزايد الفجوة بين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح، ويبرز مدى الإجحاف في توزيع الثروة، حيث يستحوذ أصحاب الأرباح على النصيب الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي بينما تتراجع حصة العمال والأجراء بشكلٍ مستمر.

 

30.8

بتقسيم حصة الفرد السنوية على عدد أشهر السنة، يتبين أن حصته الشهرية لا تتجاوز 30.8 دولار، أي ما يعادل حوالي 452,760 ليرة سورية

17.3

حصة العائلة من الناتج المحلي الإجمالي لا تغطي سوى 27.7% من الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة، و17.3% من وسطي التكاليف

570

حصة أصحاب الأجور الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من المجتمع السوري لا تتجاوز 570 مليون دولار، بينما تتجاوز حصة أصحاب الأرباح 5.6 مليار دولار

1186-3

معلومات إضافية

العدد رقم:
1186
آخر تعديل على الجمعة, 09 آب/أغسطس 2024 13:04