مشروع الغفلة: التخلي عن «الخطوط السورية» 20 عاماً.. بثمن طائرة وثلث!
في أحد صباحات حزيران 1947، تجمهر حشدٌ من السوريين الذين أخذتهم الحماسة كي يشاهدوا انطلاق أولى الطائرات السورية العاملة لدى شركة الطيران السورية التي تأسّست بالتزامن مع انتزاع البلاد استقلالها عن الاحتلال الفرنسي. آنذاك، كان نبض الناس عالياً، وكذلك تصوراتهم عن مستقبل بلادهم التي انتشلوها من أنياب الاستعمار. ربما لم يخطر في بال أحد منهم أن يوماً سيأتي وسيعمل «سوريون» مثلهم على انتزاع مؤسسات الدولة الناشئة من يد الناس بالاستناد إلى ذرائع وحجج كاذبة وعناوين زائفة مثل «التشاركية» وغيرها من العبارات المواربة التي تحاول عبثاً أن تخفي جوهر عملية المصادرة.
منذ بداية هذا الشهر، أثير غبار إعلامي كثيف حول عملية جديدة تستهدف مفصلاً آخراً من مفاصل جهاز الدولة السوري بسلاح الخصخصة، هو مؤسسة «الخطوط الجوية السورية»، حيث أثارت التفاصيل المحيطة بعملية الاستهداف هذه ومستوى «الاستخفاف» الذي شعر به الكثير من الناس إزاءها ردود أفعال متفاوتة في حدتها، تتفق غالبيتها الساحقة في أن العملية تستهدف من أساسها مصالح السوريين وتنتزع منهم واحدةً من مؤسساتهم التي دفعوا ثمن تشييدها وتشغيلها لتعود عليهم بالمنفعة.
كتمان وسرية.. وجوهر عملية الخصخصة واحد
وفقاً للمعلومات المتوافرة في الإعلام المحلي حتى الآن، فإنه في يوم 22 كانون الأول 2022، تقدّمت شركة تحمل اسم «إيلوما» بطلبٍ إلى وزارة النقل أبدت فيه «رغبتها» باستثمار وتطوير وإدارة وتشغيل مؤسسة الخطوط الجوية السورية. وذلك وفق الحيثيات التالية:
لم تعلن الحكومة عن هذا الاستثمار في الإعلام سابقاً. ولم ترد في الصحف والإذاعات والتلفزيون أية تصريحات حكومية عن طرح مؤسسة الطيران للاستثمار. كما لا يعلم أحد على وجه اليقين أي شيء عن شركة «إيلوما للمساهمة المغفلة الخاصة»، حيث لا تاريخ سابق لها في هذا المجال ولا غيره، ولا يعرف أحد سابقاً من هم مجلس إدارتها أو رئيسه. ولم يجد قرار وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك القاضي بالتصديق على النظام الأساسي لشركة «إيلوما» طريقه للانتشار في الإعلام إلا بعد انتشار خبر عرض الاستثمار. كما أكدت مصادر محلية أن وزارة النقل أحالت الموضوع إلى هيئة تخطيط الدولة لدراسة الجدوى الاقتصادية من المشروع ليتم تقديمه إلى مجلس التشاركية لاتخاذ القرار بشأنه من قبل الدولة ذلك رغم أن القوانين تؤكد أنه لا يجب أن يقل عدد الجهات المقدّمة على أي عرض استثمار تعلنه الدولة عن 3 جهات، ويجب أن يعاد الإعلان أكثر من مرة حتى يتحقق ذلك.
باختصار، فإننا أمام حالة خبرناها سابقاً، حيث يتم التفريط بمؤسسات الدولة تحت ستار من الكتمان وبأقل قدر من المعلومات «المسرّبة» للإعلام.
لهذا السبب، لن نقف كثيراً عند هوية الجهة المستثمِرة، فهذا - على أهميته- ليس لبّ الموضوع، بل عند طرح الشركة للاستثمار بحد ذاته، وضروراته، ومفارقاته التي تفقأ العين.
عن أية مؤسسة نتحدث؟ وما هي المبررات؟
يتطلب الحفاظ على مصالح الناس في أية دولة تطويراً دائماً لمؤسساتها العامة الرابحة والأخذ بيد القطاعات المحتمل خسارتها ومنعها من التوقف بأية طريقة، ذلك لأن إنتاجها هو أهم مصدر من مصادر إيراد الدولة. فكيف الحال وأننا نتحدث عن مؤسسات رابحة؟
رغم أسطول الطائرات القليل، بلغت تقديرات أرباح مؤسسة الخطوط الجوية السورية في عام 2021 حوالي 129 مليون دولار من عمليات النقل داخل سورية فقط دون حساب عائدات عمليات النقل الخارجية وعائدات تموين الطائرات واستقبال الركاب وجميع الخدمات الأرضية!
مقابل ماذا تسحب الحكومة يدها من المؤسسة؟ وفق المعلومات، سيكون المقابل هو حصول المؤسسة على ما نسبته 20% (خلال السنوات العشر الأولى) إلى 25% (في السنوات العشر التالية) من إجمالي الإيرادات وستعاد أصول المشروع إلى المؤسسة بعد نهاية مدة الاستثمار المقدرة بـ20 عاماً. وستضخ الشركة خلال هذه الفترة استثمارات قدرها 300 مليون دولار من أجل شراء وصيانة الطائرات والمحركات وقطع التبديل والوصول بأسطول الطائرات إلى 20 طائرة، ورفع عدد الركاب إلى أكثر من 3 ملايين راكب سنوياً.
استثمار «إيلوما» خلال عشرين عاماً: مقابل ثمن طائرة وثلث!
إذا أمسكت شركة «إيلوما» بالمؤسسة، فهذا يعني أنها ستأخذ 80% من الإيرادات في السنوات العشر الأولى و75% في السنوات العشر التالية، مقابل أن تضخ سنوياً 15 مليون دولار وسطياً فقط. على سبيل المقاربة، يبلغ وسطي السعر العالمي لطائرة Airbus A340-300 الموجودة لدى أسطول الطائرات السوري 219 مليون دولار. بكلامٍ آخر، إذا حدث هذا الاستثمار، فستكون شركة «إيلوما» استثمرت وربحت مبالغ هائلة خلال عشرين عاماً مقابل ثمن طائرة وثلث..
السؤال البديهي هو لماذا لا تقوم المؤسسة نفسها التي تبين أنها تستطيع أن تربح حوالي 129 مليون دولار (على أقل تقدير، ومن العمليات الداخلية فقط، وفي عام واحد فحسب) بذلك؟ ما الذي يمنعها من ضخ 11.6% من ربحها من أجل عمليات التطوير والصيانة والشراء؟ ما الذي يمنعها من استثمار أكثر من ذلك إن كانت رابحة والاستثمار فيها سيؤدي إلى مزيد من الإيرادات لخزينة الدولة؟ ومن ثم تستطيع أن تجني - وحدها - ثمار الأرباح الآتية من عمليات التطوير؟ هذا إذا أهملنا أصلاً أن ثمة بعض الاقتصاديين الذين يقدرون أرباح مطار دمشق الدولي فقط بحوالي 450 مليون دولار سنوياً!
والحال هذه، فإننا نستنتج - استناداً إلى أدنى التقديرات التي لا تعبر عن حجم الربح الحقيقي- أن أرباح المؤسسة خلال 20 عاماً ستكون ما بين 2.5 مليار دولار (إذا اعتمدنا تقديرات ربح المؤسسة خلال 2021) و9 مليارات دولار (إذا اعتمدنا تقديرات ربح مطار دمشق الدولي فقط). وهي الأرباح التي ستتخلى عنها مقابل نسب ضئيلة من الإيرادات السنوية ومبلغ هزيل للاستثمار.
في السابق، كانت عمليات خصخصة مؤسسات الدولة تمرّ عبر سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى ترك انطباع كاذب بأن ما يجري هو عملية «قانونية» و«شفافة» بما في ذلك اختلاق العديد من المصطلحات التي تهدف إلى التعمية عن جوهر عملية الخصخصة هذه. في حالة «إيلوما» لم يتكبد المعنيون حتى عبء محاولة المواربة هذه، فغاب مصطلح «التشاركية» عن تفاصيلها بما يفتح إمكانية وضع يد الشركة الخاصة على المؤسسة دون أن تلتزم بمعايير عقود «التشاركية» التي تلزم المعنيين بسلسلة من الإجراءات التي ينظمها القانون رقم 5 لعام 2016، والذي يمنع وضوحاً أي مؤسسة عامة أن توقع استثماراً مع القطاع الخاص دون استدراج عروض من شركات أخرى للانتقاء من بينها.
ليست المرة الأولى.. تجارب الماضي حاضرة أمامنا
هذه أسطوانة مشروخة اعتداها الشعب السوري: يسحب أصحاب القرار المتحكمين أيديهم من مؤسسات الدولة لدفعها نحو الفشل، وحين تقتضي الضرورة يتدخلون لإفشال هذه المؤسسات قسراً. حين يحدث ويعتاد الناس أن هذه المؤسسات «فاشلة» تكون قد أوجدت الأرضية لتمرير خصخصة هذه المؤسسات، وهي المؤسسات ذاتها التي تغدو رابحة بقدرة قادر بمجرد خصخصتها رغم أن من استولى عليها لم يقم بشيء فعلي يعجز عنه جهاز الدولة لو ثمة قرار سياسي بأن يكون فاعلاً.
تقدّم لنا تجربة الاتصالات مثالاً حيّاً على النهج المتّبع في البلاد، ذلك عندما تخلت الدولة «طوعاً» عن أرباح هائلة حصدتها شركتا الاتصالات الوحيدتين في البلاد منذ انطلاقهما مطلع الألفية الحالية، حيث فاقت أرباحهما لسنوات أرباح أية شركة موجودة في الإقليم. وبعد 15 عاماً، أي عندما حان موعد عودة الشركتين إلى ملكية الدولة كاملاً وفقاً لعقود الـB.O.T في عام 2015، ما الذي جرى؟ كان القرار السياسي ببساطة يقضي أن تتحول عقود الـB.O.T إلى عقود ملكية خاصة، وأن تقلص الدولة السورية حصتها إلى 30% ثم 20% وهكذا..
لا إيرادات = لا دعم.. حول افتعال الحجة والتسبب بها
النتيجة المباشرة لانسحاب الدولة من لعب دورها الواجب في حماية المؤسسات الرابحة ودفع الخاسر منها للنهوض هو تخليها فعلياً عن مواضع الإيرادات التي تحتاجها كي تستطيع الإنفاق. هذه الحجة ذاتها التي سيجبر السوريون على سماعها عندما يخطو أصحاب القرار في البلاد خطوة جديدة في مسيرة رفع الدعم. ففي جميع عمليات رفع الدعم التي تمت خلال السنوات الماضية، لم يكد يخلو تصريح حكومي من اجترار الفكرة القائلة إن رفع الدعم (تحت مسميات عقلنته أو إعادة هيكلته... إلخ) تهدف إلى تأمين موارد إضافية في خزينة الدولة، و«التمنين» المتواصل للسوريين بارتفاع فاتورة الدعم، وكأن ذنبهم هم أن الدولة لا تعطيهم أجوراً تكفيهم تكاليف الحياة الضرورية، وكأن ذنبهم أيضاً أن اليد القصيرة للدولة التي لم تمسّ جيوب كبار الناهبين / أحد أهم المصادر الحقيقية لإيرادات الدولة قد تسبّبت في تفاقم عجز الموازنة العامة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1131