الصناعة عصب البلاد.. إلى أي درك يمكن أن نصل بعد؟

الصناعة عصب البلاد.. إلى أي درك يمكن أن نصل بعد؟

منذ ما سميت بعمليات «الانفتاح» وتحرير التبادل التجاري التي بدأت قبل انفجار الأزمة في سورية عام 2011 بسنوات، وصولاً إلى لحظة الانفجار وما تلاها من تعقيدات وصعوبات، دخلت الصناعة السورية في نفقٍ مظلم يدفع ثمنه السوريون مزيداً من الارتفاع في مستويات العجز وانهيار الليرة، بينما يقف المسؤولون الرسميون مكتوفي الأيدي لا يسعهم إلا تكرار سرد قائمة الأسباب التي أودت بالصناعة إلى هذا الدرك، في ظل الامتناع عن القيام بأي فعلٍ حقيقي من شأنه أن ينتشل هذا القطاع الحيوي.

دفعت الصعوبات التي تمر بها البلاد، بالإضافة إلى التضييقات والإهمال ومحاولات الجباية «القراقوشية»، أعداداً كبيرة من الصناعيين السوريين - والكفاءات الأساسية العاملة في المجال الصناعي- إلى البحث عن فرص أفضل ومغادرة البلاد نحو وجهاتٍ عديدة (أهمها تركيا، ومصر، والأردن...)، حيث شملت عمليات المغادرة هذه نقل العديد من المعامل وإقامة معامل ومنشآت جديدة في هذه الدول. أما من بقي داخل البلاد، فإنه بالكاد يستطيع الاستمرار في ظل الانحدارات اليومية التي تطال عملية الإنتاج ومستلزماتها.
هذا جزئياً هو وضع الصناعة في القطاع الخاص، حيث يمكن لأحدهم أن يتذرع بالادعاء أننا لا يمكن أن نفعل شيئاً حيالها طالما أن القرار يعود لأصحابها في البقاء أو مغادرة البلاد. فماذا عن القطاع العام الصناعي، حيث ينبغي بداهة أن تملك الحكومة زمام القرار والتحكم بمصيره؟ في الواقع، تشير بيانات المكتب المركزي للإحصاء إلى أن التراجع المضطرد الذي أصاب القطاع العام الصناعي في سورية قبل انفجار الأزمة شهد معدلات غير مسبوقة من التراجع خلال السنوات القليلة الماضية، معدلات بلغت حدوداً يمكن القول عندها إن الصناعة العامة شبه متوقفة تماماً في البلاد.


1101102


الصناعات التحويلية بوصفها نموذجاً فاقعاً

كما أكدنا سابقاً، تراجعت مساهمة الصناعات التحويلية (الصناعات التي تحوّل المواد الأولية إلى منتجات نهائية أو منتجات وسيطة) في الناتج المحلي الإجمالي في البلاد خلال سنوات ما قبل انفجار الأزمة، إلى حد وصلت فيه هذه المساهمة إلى نسبٍ تراوحت بين 5,6 و6,7% من الناتج بين أعوام 2007 و2010، أي ما يقدّر بحوالي 18% من إجمالي الناتج الصناعي السوري الذي تغلب عليه الصناعات الاستخراجية مثل النفط والغاز...
خلال السنوات القليلة الماضية، وعلى نحوٍ مشابه لجميع قطاعات الاقتصاد السوري، انخفض الإنفاق الحكومي التقديري على قطاع الصناعات التحويلية في الموازنة العامة للدولة من حوالي 543 مليون دولار في عام 2003 إلى ما يقارب 105 مليون دولار في عام 2012، أما في موازنة 2021، فلم يتجاوز 27 مليون دولار، ليعاود الرقم الانخفاض بنسبة كبيرة جداً خلال عام واحد، ليصل في موازنة العام 2022 إلى 17,7 مليون دولار! بكلامٍ آخر، فإن الدولة اليوم تنفق على قطاع الصناعات التحويلية 3.2% مما كانت تنفقه على القطاع ذاته في عام 2003!


1101103


انخفاض الأساسيات: خبز وزيت نباتي ودقيق تمويني

منطقياً، من المفروض أن تكون قطاع صناعة الخبز، بوصفه لقمة العيش الفعلية المباشرة للمواطنين، آخر شيء يمكن للدولة أن تسمح بتراجعه، لكن نظرة سريعة على البيانات تكشف العكس، حيث انخفض إنتاج الخبز في مؤسسات القطاع العام إلى 867,000 طن في عام 2020، بينما بلغ إنتاجه في عام 2010 إلى حوالي 1,019,000 طن.
على النحو ذاته، شهد إنتاج الزيت النباتي في القطاع العام السوري تراجعاً كبيراً، حيث انخفض من 46,749 طن في عام 2006، إلى 31,927 في عام 2010، ثم إلى 1,820 في عام 2020، أي أن قطاعنا العام أنتج في 2020 حوالي 3.8% من كميات الزيت النباتي التي كان ينتجها في 2006!
وفي الأساسيات ذاتها، انخفضت كميات الدقيق التمويني المنتجة في مؤسسات القطاع العام بأكثر من النصف، حيث تراجعت من 2,073,000 طن في 2010، إلى حوالي 887,000 طن في 2020.


1101100


الصناعات النسيجية: من 30% إلى 60%

رغم أن حصة الصناعات النسيجية من الصناعات العامة أصبحت تشكِّل نسبة 60% خلال سنوات الأزمة، بعد أن كانت مساهمتها 30% فقط قبل ذلك، إلا أن هذا الارتفاع ليس بسبب زيادة الإنتاج، بل بسبب تدهور الإنتاج بوتيرة أسرع في القطاعات الأخرى، حيث تكشف الأرقام المطلقة للإنتاج في الصناعات النسيجية أن هذا الإنتاج تراجع أيضاً بنسبٍ كبيرة.
على سبيل المثال لا الحصر، تراجع إنتاج الغزول القطنية في القطاع العام من 106,770 طن في عام 2010 إلى 12,801 طن فقط في عام 2020. بينما تراجع إنتاج الأقمشة القطنية من 18,266 طن إلى 2,789 طن خلال الفترة ذاتها، في وقتٍ تراجع فيه إنتاج الألبسة الجاهزة من 686,000 قطعة إلى 1,558 قطعة فقط!
في الإطار ذاته، شهدت صناعة السجاد لدى مؤسسات القطاع العام تراجعاً كبيراً من 245 ألف متر مربع في عام 2010، إلى 51 ألف متر مربع في عام 2020. أما إنتاج الجوارب فقد تراجع خلال الفترة ذاتها من 136,000 دزينة، إلى 84,000 دزينة. بينما توقف إنتاج الحرامات تماماً في مؤسسات الدولة، بعدما كانت تنتج ما يقارب 56,000 في عام 2010.


1101-2


الأدوية أيضاً.. مسار التصفية يطال كل شيء

يشكل الإنتاج الكيميائي في سورية واحداً من القطاعات المفصلية التي كان يعوّل على تطويرها، ولا سيما إنتاج الأدوية الطبية في القطاع العام. رغم ذلك، شهدت سورية تراجعاً حاداً في إنتاج الأدوية، فبينما كانت تنتج ما يقارب 119,527,000 كبسولة و184,164,000 قرص و3,458,000 أمبولة و6,576,000 تحميلة و9,048,000 سيروم طبي في عام 2010، باتت في 2020 تنتج فقط 74,794,000 كبسولة، و114,549,000 قرص، بينما تداعى إنتاج الأمبولات والتحاميل والسيرومات الطبية إلى الصفر!
بعيداً عن الأدوية الطبية، تراجعت مختلف فروع الإنتاج الحكومي في قطاع الكيماويات بنسبٍ مشابهة، حيث انخفض إنتاج مساحيق المنظفات من 6,626 طن في 2010، إلى 268 طن فقط في 2020، وخلال الفترة ذاتها، تراجع إنتاج المنظفات السائلة من 1,316 طن إلى 414 طن فقط.


1101101


أشياء لم يعد ينتجها القطاع العام

منذ ما قبل عام 2010، كان إنتاج القطاع العام محصوراً إلى حدٍ ما في عددٍ من الصناعات خفيفة التكنولوجيا، وكان من المطلوب سورياً أن يتم توسيع قائمة السلع التي يتم تصنيعها محلياً والاستغناء عن استيرادها تماماً. لكن ما حدث بفعل سياسات تصفية القطاع العام هو العكس تماماً، حيث بات هنالك قائمة طويلة من السلع التي كنا ننتج حاجتنا - جزئياً أو كلياً - منها ثم توقف إنتاجها تماماً.
المثال الأبرز على هذا هو إنتاج السكر، الذي توقفت معظم مصانع تكريره بقرارات حكومية لصالح تجار الاستيراد، فقد تراجع إنتاجه في المؤسسات الحكومية من 233,000 طن في عام 2010، إلى 0 طن في بيانات 2020.
وتطول قائمة السلع التي كان ينتجها قطاعنا العام وتوقف عن إنتاجها تماماً، ابتداءً من المعكرونة والشعيرية والبسكويت والبصل المجفف والمشروبات الغازية والبيرة والأحذية الرياضية والمطاطية والجلود المدبوغة والإطارات والقضبان الحديدية والأنابيب المعدنية وأجهزة التلفزيون والمحركات والمحولات الكهربائية والبطاريات الجافة والسائلة وصولاً إلى مقاطع الألمنيوم والجرارات والسيراميك والقرميد.
هذا كله ترافق مع انحدار في أعداد العمال في القطاع الصناعي العام، فبدل أن يزداد التوظيف، انخفض الرقم الإجمالي للعمال في قطاع الصناعة الحكومي من 190,274 في عام 2006 إلى 183,323 في عام 2010، ثم إلى 125,388 في عام 2020. حيث طال هذا الانخفاض في أعداد العمال جميع جوانب قطاع الصناعة الحكومية، من العمال في الصناعات التحويلية إلى العمال في الصناعات الاستخراجية إلى عمال الكهرباء والماء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1101