الظلام في منازل المنهوبين.. ثروات في جيوب الناهبين

الظلام في منازل المنهوبين.. ثروات في جيوب الناهبين

تتواصل حالة التدهور السريع في قطاع الكهرباء السوري دون أية بوادر للحل تلوح في الأفق. وكما الحال مع كل شتاء، يرزح السوريون تحت وطأة زيادةٍ جديدة في عدد ساعات الحرمان من الكهرباء حيث وصلت الانقطاعات في الكثير من مناطق البلاد إلى ما يزيد عن عشرين ساعة في اليوم، تزداد معها ضرورة الإلحاح بالسؤال: لماذا تشهد سورية هذا العدد من ساعات «التقنين»؟ وهل يوجد في جعبة الممسكين بالقرار أي جواب مقنع؟

انخفض إنتاج سورية من الكهرباء من حوالي 7200 ميغا واط في عام 2010 إلى حوالي 2500 ميغاواط حالياً وفقاً لتقديرات المؤسسة العامة لتوليد الكهرباء. وقد يعتقد البعض أن المشكلة تكمن في الدمار الذي طال البنى التحتية لقطاع الكهرباء نتيجة الحرب في البلاد، لكن - ووفقاً للتصريحات الرسمية مرة أخرى- فإن هذا غير صحيح. حيث خرجت المؤسسة العامة لتوليد الكهرباء يوم الخميس 10-11-2022، لتؤكد أن «محطات التوليد في القطر قادرة حالياً على تلبية احتياجات المستهلكين بنسبة 70 بالمئة في حال توافر حوامل الطاقة الكافية لإنتاج الاستطاعات الممكن إنتاجها»، معلنة أنه بعد إدخال المحطة الحرارية بحلب في الخدمة بات بالإمكان إنتاج 6 آلاف ميغاواط لو توافرت حوامل الطاقة اللازمة.

كم يحتاج السوريون من الكهرباء حالياً؟

إذا اعتمدنا التصريح المذكور آنفاً، وقلنا إن 6 آلاف ميغاواط تعادل 70% من الحاجة السورية للكهرباء، نجد أن التصريحات الرسمية تقدِّر هذه الحاجة بما يقارب 8.5 غيغاواط، وهو رقم يحتاج إلى نقاش:
وفقاً للنشرة الإحصائية الصادرة عن الاتحاد العربي للكهرباء عام 2011، بلغت الحاجة السورية للكهرباء حوالي 8.6 غيغاواط. والسؤال هنا: هل من المعقول والمنطقي أن حاجة البلاد للكهرباء بعد موجات الهجرة والتجريف التي طالت ملايين الأشخاص عدا عن اللجوء خارج البلاد، وبعد تراجع عجلة الصناعة والزراعة بشكلٍ هائل، وبعد وجود عدد من المحافظات السورية التي لا تتم تغذيتها كهربائياً من المركز، هل من المعقول بعد هذا كله أن تبقى تقديرات الحاجة كما هي عند حدود 8.5 غيغاواط؟
بأخذ هذه العوامل بعين الاعتبار، فإننا إن لم نشأ القول إن الـ6 غيغاواط التي تستطيع محطات الطاقة توليدها - حالياً- وفقاً لتصريحات المؤسسة العامة لتوليد الكهرباء كافية لتأمين كامل الاحتياجات الحالية للبلاد من الكهرباء (رغم أن هذا منطقي وممكن)، فإنها بالتأكيد كافية لتأمين نسبة أعلى بكثير من 70% التي تم ذكرها. بالمناسبة، في شهر نيسان الماضي، صرحت مؤسسة نقل وتوزيع الكهرباء: «نولد حالياً بالاعتماد على الغاز الوارد لنا من وزارة النفط نحو 1900 ميغا واط، ولو توفر لنا قرابة ضعفي ما نولده حالياً أي 5000 ميغا واط، لاستغنينا عن التقنين بشكل شبه كامل». ليبقى السؤال، ما الذي يمنع تأمين حوامل الطاقة اللازمة للتشغيل؟


 1097b


نقص حوامل الطاقة.. ماذا بعد؟

كلما دار النقاش حول أسباب عدم تشغيل محطات توليد الطاقة في سورية بأعلى استطاعة ممكنة، جاءت الردود الرسمية لتتحدث عن نقص كميات حوامل الطاقة اللازمة للتشغيل، ويجري التركيز بشكلٍ كبير على نقص توريدات الغاز الطبيعي. فوفقاً للمؤسسة العامة لتوليد الكهرباء، فإن كمية الغاز الواردة حالياً لمحطات التوليد لا تتجاوز 5 ملايين و500 ألف متر مكعب (بالمقارنة مع حوالي 20 مليون قبل الأزمة)، بينما الوارد من الفيول إلى محطات التوليد يقارب مليوناً و171 ألف طن.
وهنا تبرز مشكلة إلى الواجهة، وهي أن غالبية التوليد السوري الحالي للطاقة يعتمد على الغاز، وفي ظل انخفاض كميات الغاز المستخرجة في البلاد (وفقاً لبعض التقديرات، فإن ما تنتجه سورية حالياً من الغاز الطبيعي لا يعادل 40% مما كانت تنتجه قبل الأحداث)، فإن البلاد عاجزة حالياً عن سد النقص من خلال الإنتاج المحلي، وبالتالي فهي مضطرة للاستيراد من الخارج في ظل صعوبة نقل الغاز الطبيعي بالمقارنة مع سهولة نقل الفيول.
وهنا يكمن السؤال: هل من الضروري أن تبقى البلاد أسيرة العوز إلى الغاز الطبيعي؟ ولا سيما أن مسألة زيادة الاعتماد على الغاز في توليد الكهرباء هي مسألة حديثة نسبياً، حيث تشير أرقام ما قبل الأزمة، عام 2008 مثلاً، إلى أن نسبة توليد الكهرباء بالاعتماد على الفيول بلغت نسبة تقارب 62%، بينما لم يتجاوز التوليد بالاعتماد على الغاز الطبيعي نسبة 32.5%، أما نسبة التوليد بالاعتماد على الطاقة الهيدروليكية (الماء) فلم تتجاوز 5.5%.
وبالعودة إلى التقرير الاحصائي الصادر عن المؤسسة العامة لتوليد الكهرباء عام 2020، نجد أن الغالبية الساحقة من العنفات في محطات التوليد هي عنفات بخارية ومركبة (أي يمكن فعلياً الاعتماد على الفيول في تشغيلها، حتى وإن كانت تتطلب في حالات معينة بعض أعمال الصيانة والتغييرات في العنفات)، أما العنفات الغازية التي تعمل على الغاز الطبيعي (السويدية، والتيم، وتشرين الغازية، وتوسع بانياس) فإنها - وفقاً للتقرير ذاته- لا تمثل من مجموع الطاقة الاسمية سوى 407 ميغاواط من أصل 4382 ميغاواط، أي 9.2% من مجموع الطاقة الاسمية. وهنا نعود للسؤال: إذا كان بالإمكان زيادة الاعتماد على الفيول - كما كان الوضع سائداً قبل الأحداث- لتأمين الطاقة الكهربائية، فلماذا لا يتم تأمين العمليات اللازمة والكمية الضرورية منه لتشغيل المحطات؟


 


«شفط الدعم» هو كلمة السر الفعلية

لا يضيف المرء جديداً إن قال إن الكلام عن الأعطال والاستطاعات ومشاكل المحطات وصعوبات التوريد وغيرها من العقبات تستخدم بكثرة، وبسبب ودون سبب، كحججٍ لتبرير عدم التحرك لوضع حد لحالة التدهور على صعيد الطاقة في البلاد.
السؤال هنا، وبعيداً عن الحجج والمبررات: هل سعى المعنيون في البلاد جدياً لتأمين عقود طويلة الأجل لتوريد الفيول من الدول الصديقة التي لا تلتزم بالعقوبات الغربية المفروضة على سورية؟ هل سعوا جدياً لإيجاد ترتيبات مع هذه الدول تضمن التدفق المستمر لحاجات البلاد من الطاقة اللازمة لتشغيل محطات التوليد دون محاولة جعل هذه الدول الصديقة بقرة حلوب تهدر ثرواتها لتملأ جيوب الفساد الكبير في سورية؟ أم أن التقاعس عن السعي لتشغيل المحطات بطاقتها الكاملة، وبالتالي حرمان ملايين السوريين من الكهرباء، يرتبط بمحاولة توفير كلف دعم الكهرباء؟ حيث لا يوفّر المسؤولون مناسبة لتذكيرنا بأن كلفة الكيلوواط الساعي على الحكومة تبلغ 315 ليرة سورية بينما تبيعه لنا بليرتين فقط.


 1097c


اقتصاد «السلبطة» عائقاً أمام إعادة الإنتاج

إذا كانت محاولة توفير كلف الدعم هي السبب في اعتكاف هؤلاء عن السعي خلف مصادر تشغيل المحطات، فإن هذا يكشف إلى أي حد يتمتع الممسكون بزمام القرار في البلاد بعقلية ضيقة الأفق. فهل يجب تذكيرهم بأن الإنفاق على دعم الكهرباء وتشغيل المحطات، وبالتالي تدوير عجلة الإنتاج من صناعة وزراعة وغيرها وضخ الدماء في شرايين الاقتصاد الوطني إلى أقصى حد ممكن، سيكون كفيلاً بتأمين إيرادات تفوق هذا الإنفاق بشكلٍ كبير؟ ثم هل يمكن لأي عملية حسابية حول تكاليف إعادة تأهيل قطاع الكهرباء من الألف إلى الياء أن تُقارن مع الخسائر المتراكمة الناتجة عن إيقاف عجلة الإنتاج وضرب عصب الاقتصاد الوطني؟
تدرك الغالبية الساحقة من الشعب السوري ببساطة أن إعادة تدوير عجلة الإنتاج ليست لمصلحة كبار الناهبين المستفيدين من تحويل اقتصاد البلاد إلى اقتصاد يعتمد «السلبطة» على عمليات الاستيراد والحوالات المالية فضلاً عن نشاط أمراء الحرب بقطاعات الاقتصاد الأسود من تهريب ومخدرات ومصادرات ومسروقات وغيرها... ليغدو الظلام الذي يخيّم في البلاد ومعاملها وقطاعاتها الإنتاجية وداخل منازل منهوبيها أداة في تكدّس ثروات إضافية في جيوب ناهبيها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1097
آخر تعديل على الإثنين, 21 تشرين2/نوفمبر 2022 00:05