ما الذي تعنيه إعادة طرح مسألة «الدعم» النقدي في سورية؟
مع تعقّد الأوضاع الاقتصادية وتدهور الحالة المعيشية للشعب السوري، يترقب المواطنون بطبيعة الأحوال إشارة ما من هنا أو هناك حول أيّ تغيّر قد يطرأ على منظومة الأجور الهزيلة في البلاد، ولا سيما أن سورية باتت تقبع فعلياً في ذيل قائمة وسطي الأجور عالمياً. ويجري ذلك في وقتٍ تتآكل فيه القدرة الشرائية لهذه الأجور على نحوٍ يومي.
اعتبر البعض أن الإشارة التي سبق لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك أن أطلقتها في شهر نيسان الماضي، حول قيامها بدراسة «مشروع الاستعاضة عن الدعم من خلال البطاقة الذكية بمبلغٍ محدد» قد تمّ التراجع عنها نتيجة للكمّ الكبير من الاعتراضات التي رافقت هذا الإعلان في حينه، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى في بعض الصحف المحلية. لتعود الآن وزارة المالية مرة أخرى معلنةً إشارة جديدة في هذا الصدد.
الحكومة «تخضع لضغوط» مجلس الشعب!
في جلسة مجلس الشعب يوم الإثنين 07/11/2022، أكدت وزارة المالية أنه ستتم «مناقشة تحويل الدعم إلى بدلٍ نقدي في مجلس الوزراء»، أي أن الدعم الاستهلاكي الذي يشكل- نظرياً- النسبة الأكبر من الدعم القائم في سورية (حيث تخصص الحكومة جزءاً من موازنتها المالية السنوية لتخفيض أسعار سلع وخدمات بعينها) سوف يتحول إلى «دعم» نقدي، أي مبلغ تدفعه الحكومة نقداً للمواطن.
بكلامٍ آخر، فإن «الدعم النقدي» يعني توقف الدولة عن تعهدها بالحفاظ على أسعار سلع محددة عند حدود معينة، وتحرير أسعار هذه السلع في السوق (أي ارتفاع أسعارها عدة مرات مقابل إضافة مبلغ مالي من المفترض أنه «تعويض» لأجر العامل) الذي يعرف مسبقاً أن المبلغ الذي سيأخذه - ومعه راتبه الأصلي- سوف يتبخران بسرعة أكبر نتيجة تحرير الأسعار.
ولإضفاء نوع من «الشرعية» على هذا التوجه، تؤكد تصريحات وزارة المالية أن مناقشة هذا المشروع ستتم «بناءً على مطلب عدد من أعضاء مجلس الشعب»، ليتم الإيحاء وكأن أصحاب القرار في البلاد ليسوا هم المعنيين بدفع هذه المسألة إلى الواجهة، وأنهم مجرد «مستجيبين» للضغوط الآتية ممن يفترض أنهم ممثلو الشعب السوري!
الإيهام بتوجيه الإيرادات لزيادة الأجور والرواتب
أولى الأفكار التي ينبغي الوقوف عندها هي الحديث الرسمي الذي يتكرّر قبل كل ضربة توشك على الحدوث فيما يتعلّق بمنظومة الأجر والدعم في سورية، وهو أن الحكومة «تعطي الأولوية» لتوجيه الإيرادات نحو رفع الأجور والزيادات والمنح والتعويضات. وقد يكون هذا الحديث منطقياً لو كان الاقتصاد الوطني يشهد نمواً وتقدماً، أما وأن الانكماش والتراجع هما سيدا الموقف، فإن أية وعود بتوجيه إيرادات لاحقة لرفع الأجور هي وعود قاصرة.
بهذه المناسبة، تفصح الموازنة العامة للدولة للعام 2023 عن نفسها لا بوصفها موازنة انكماشية بامتياز فحسب (حيث انخفضت بعد تحويلها للدولار من حوالي 5 مليارات دولار في العام 2022، إلى ما يقارب 3 مليارات دولار في العام 2023)، بل وكذلك بوصفها واحدة من أكثر موزانات الدولة تخفيضاً لاعتمادات بند «الدعم الاجتماعي» التي تراجعت من 1.5 مليار دولار في 2022، إلى 0.9 مليار دولار في 2023. وبالتالي، فإن الحديث عن التحول نحو «الدعم النقدي» يجري أساساً في ظل تراجع الدولة المتسارع عن دورها في مجال الرعاية الاجتماعية، وتآكل مصادر الإيرادات المرتبطة بالإنتاج الحقيقي بمقابل محاولة رفع مصادر الإيرادات المرتبطة بالضرائب والرسوم في ظل نظام ضريبي موجّه لجيوب الأكثرية المنهوبة من الشعب ولا يطال جيوب الناهبين الكبار بشكلٍ فعلي.
500 ألف أو حتى ملايين.. لا فرق!
في سيل التداول الإعلامي المفتوح حول موضوع الأجور يجري ماءٌ كثير. وواحدة من «الاقتراحات» التي انتشرت مؤخراً هي مطالبة أحد أعضاء مجلس الشعب برفع الحد الأدنى للأجور والرواتب في سورية ليصبح 500 ألف ليرة سورية، معتبراً أنه بذلك «يستطيع المواطن أن يعيش بكرامة يستحقها»!
ولا تحتاج المسألة إلى كثير من السجال في هذا الصدد، إذ يكفي القول إن ارتفاع الحد الأدنى للأجور ليصبح 500 ألف - أو حتى ملايين الليرات السورية- لا يعني شيئاً إذا لم ترتفع القيمة الحقيقة لهذا الأجر وما يمكن أن يغطيه من الاحتياجات، فمهما بلغت عملية رفع الأجور فإن قيمة الأجر سرعان ما ستتبخر جراء الارتفاعات الكارثية التي ستشهدها أسعار السلع في السوق (على سبيل المثال: وفق آخر حساب لمؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة، فإن الحد الأدنى للأجور في البلاد والذي لا يتجاوز 92,970 ليرة سورية لا يشكل سوى 4.1% من الحد الأدنى لتكاليف معيشة أسرة من خمس أشخاص والتي بلغت 2,234,339 ليرة سورية) وفي حال تحرير أسعار السلع في السوق، فإن أسعارها ستتضاعف مرات ومرات بمقابل «ارتفاع» الأجر اسمياً إلى 500 ألف ليرة مثلاً. وبالتالي، فإن أية عملية رفع اسمية للأجور لا تضمن رفع القيمة الحقيقية للأجر إيجابياً فإنها ليست سوى «ضحك على اللحى».
هل يضمن «البدل النقدي» محاربة الفساد؟
واحدة من الحجج التي يجري تسويقها لتبرير فكرة تحويل الدعم إلى دعم نقدي هي أن التحويل هذا سيضمن وضع حد لعمليات الفساد التي تشوب الطريقة الحالية في توزيع الدعم عبر البطاقة الذكية.
والسؤال البديهي هنا، هل سيقف الفساد الكبير عاجزاً عن الاستفادة من أي شكل يجري اعتماده لتوزيع ما تبقى من الدعم؟ وهل عدم الوسيلة سابقاً للاستفادة من الأشكال القديمة؟ ثم هل الطريق الأمثل لمكافحة الفساد يكون بتقليب أشكال تقديم الدولة للدعم أم باجتثاث الفساد من جذوره؟
وفوق ذلك، تكمن واحدة من القطب المخفية في طرح مسألة الدعم النقدي في أن هذا النقد - وفقاً لبعض التقديرات - لن يكون موّحداً للجميع، وبالتالي، سيُفتح باب الفساد على مصراعيه أمام المعنيين بتقدير حاجة هذه العائلة أو تلك للدعم.
عودة إلى النقطة الأساس: أجور وأرباح
قد يسأل سائل: ما الذي يدور في بال المعنيين في البلاد؟ وما هي استراتيجية الدعم هذه التي تقتضي الزج بالبطاقة الذكية، بكل مشاكلها وعللها، ثم محاولة إيجاد بدائل لها؟
الإجابة ببساطة هي أن في بال هؤلاء رفع الدعم الاجتماعي تماماً، وهي استراتيجية تسير بخطى ثابتة منذ زمنٍ طويل، ببطاقة ذكية أو بمبلغ نقدي أو أياً كان الشكل الذي يخدِّم هذا الهدف...
وبغض النظر عن شكل الدعم، فإن جوهر المسألة وعصبها ليس هنا، أي لا تقف عند حدود شكل الدعم فقط، بل في الخلل في توزيع الثروة الوطنية بين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح لمصلحة هؤلاء الأخيرين، وفي الفارق بين الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة والحد الأدنى للأجور، وهي المسائل التي كانت السبب أصلاً في منظومة الدعم التي تشكل اعترافاً من الدولة بأنها لا تمنح أجوراً كافية للعاملين فيها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1096