في 8 سنوات: فقد السوريون 80% من أجورهم الفعلية

في 8 سنوات: فقد السوريون 80% من أجورهم الفعلية

لا يكاد يجادل أحد اليوم بأن الأجور الرسمية في سورية لم تعد قادرة على تغطية شيء فعلي من تكاليف المعيشة. وكنا شرحنا في أكثر من مناسبة على صفحات هذه الجريدة بأن جهاز الدولة في البلاد توقف منذ زمنٍ بعيد عن دفع أجور فعلية للعاملين فيه، والذين قدّر المكتب المركزي للإحصاء عددهم في عام 2020 بحدود  1,595,475 عامل، من أصل 5,726,290 مشتغل عموماً.

منذ انفجار الأزمة عام 2011، شهد الحدّ الأدنى للأجور ارتفاعاتٍ عدة عبر السنوات. لكن هذه الارتفاعات كانت دائماً تخفي ورائها تراجعاً حقيقياً في قيمة الأجر الفعلي الذي يتقاضاه العامل السوري. ولقياس هذا التراجع، سنلجأ في هذه المادة لتقدير الحد الأدنى للأجور في البلاد خلال السنوات اعتماداً على ما يشتريه هذا الأجر فعلياً. وذلك بالاستفادة من مقاييس عدّة تشترك جميعها في إثبات حقيقة تراجع القيمة الحقيقية للأجر.

ارتفاعات بالليرة.. تراجعات بالدولار

لقياس قيمة الحد الأدنى للأجر، سنعتمد على بيانات السنوات 2014 و2018 و2022، وذلك للتحقق من التغيرات التي كانت تطرأ على قيمة هذا الأجر كل أربع سنوات. نظرياً، ارتفع الحد الأدنى للأجور في البلاد من 13,670 ليرة سورية في عام 2014 إلى 16,750 ليرة في 2018، ليعاود الارتفاع مرة أخرى وصولاً إلى 92,970 ليرة يتقاضاها العامل اليوم، ما يعني أن الحد الأدنى هذا «تضاعف» بما يقارب 6 مرات منذ 2018.
لكن جانباً من الحقيقة توضحه عملية تقييم هذه «الارتفاعات» بالدولار في السوق السوداء، وهو المعيار الذي تتحدد وفقه أسعار جميع السلع في السوق تقريباً. حيث انخفض الأجر الحقيقي من 94.2 دولار في 2014، إلى 38 دولار في 2018، ليهبط إلى ما دون 23.3 دولار اليوم.
وهو ما يعني أن الارتفاع الشكلي الذي حققه الحد الأدنى للأجور بالليرة السورية، يقابله انخفاضٌ حقيقيٌ في قيمة هذا الأجر بالدولار بما يزيد على 75% منذ عام 2014، ما يعني أن ثلاثة أرباع الحد الأدنى للأجر قد طارت خلال ثماني سنوات.


10758


من 2.6 إلى 0.4

واحد من المعايير الأخرى التي يمكن استخدامها لمقاربة التراجع في القيمة الحقيقية لأجور العمال في سورية هو معيار الذهب، كونه واحداً من السلع الأكثر استقراراً والأقل تقلباً من حيث القيمة.
في عام 2014، كانت 13,670 ليرة سورية قادرة على شراء ما يقارب 2.6 غراماً ذهبياً من عيار 21، لكن بعد أربعة أعوام فقط، أصبح الحد الأدنى للأجور البالغ 16,750 ليرة غير قادر على شراء سوى 1.01 غراماً ذهبياً، ليواصل هذا الحد انهياره إلى أن أصبح بالكاد قادراً على شراء 0.4 غراماً ذهبياً. ما يعني أن قيمة الأجر الفعلية وفقاً لهذا المعيار قد انخفضت بما يزيد على 84.5%.


10759


4000% خلال ثماني سنوات

ربما يكون واحداً من أكثر المعايير وضوحاً في آليات حساب التراجع الذي أصاب قيمة الحد الأدنى للأجور في البلاد هو قياس هذا الحد بنسبة ما يغطيه من تكاليف المعيشة الضرورية للأسرة التي تشمل تكاليف الغذاء بالإضافة إلى تكاليف الحاجات الضرورية الأخرى من نقل واتصالات وتعليم وغيرها..
وإذا أخذنا مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة، نرى أن وسطي تكاليف معيشة أسرة سورية مكونة من 5 أفراد (علماً أن معدّل الإعالة في سورية يصل إلى ما يقارب واحد إلى سبعة، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة). ارتفع من 70,571 ليرة سورية في 2014 إلى قرابة 309,000 ليرة في 2018، لتتصاعد على نحو كارثي إلى ما حوالي 2,860,381 ليرة سورية وفقاً لحسابات شهر آذار الماضي. ما يعني أن هذه التكاليف ارتفعت بالليرة السورية بحدود 4000% خلال ثماني سنوات فقط!
ما يهمنا هنا هو ما يغطيه الحد الأدنى للأجور من هذه التكاليف: في عام 2014، كان الحد الأدنى للأجور في البلاد قادراً على أن يغطي حوالي 19.3% من وسطي تكاليف المعيشة. لتهبط هذه النسبة إلى 5.4% في 2018، ثم إلى حدود 3.2% في 2022. أي أن نسبة التغطية انخفضت بحدود 83.4% أيضاً.


10750


شروط أن يكون الأجر السوري أجراً حقيقياً

إذا أخذنا في الاعتبار أن معيار الدولار أثبت أن التراجع في القيمة الحقيقية للحد الأدنى لأجور العمال السوريين قد فاق 75%، ومعيار الذهب أثبت أن نسبة التراجع لا تقل عن 84.5%، ومعيار تكاليف المعيشة كشف عن تراجع يصل إلى 83.4%، يمكننا القول إن الحد الأدنى للأجور تراجع من حيث قيمته الفعلية بنسبة 80.9% وسطياً خلال ثماني سنوات.
وهذا يعيدنا إلى ما كنا أكدنا عليه في العديد من المناسبات سابقاً. وهو أن رفع الحد الأدنى للأجور لا يعني شيئاً على الإطلاق إن لم يكن مربوطاً بعوامل عدّة، منها:
أولاً: أن تتم عملية الزيادة المفترضة للأجور من مصادر حقيقية غير تضخمية، وهذه المصادر هي، أولاً: أصحاب الربح الكبير في البلاد، وثانياً عوائد الإنتاج الحقيقي الذي يجب أن تنصب الجهود على تعزيزه وتمتينه وإيقاف عمليات تصفيته المتواصلة منذ عقود. وأية «زيادة» للأجور من مصادر أخرى غير حقيقية هي زيادة تضخمية، تنقلنا من تحت الدلف الى تحت المزراب، أي إعادة توزيع الثروة لمصلحة أصحاب الأرباح على حساب أصحاب الأجور.
ثانياً: لا حل حقيقي للأجور في البلاد ما لم يكن الحد الأدنى للأجور مربوطاً بتكاليف المعيشة بشكلٍ دوري يضمن عدم حدوث خلل في النسبة التي يغطيها هذا الحد الأدنى من تكاليف المعيشة، كما أن لا معنى لهذا الربط ذاته دون اعتراف السلطة بالحد الأدنى لتكاليف المعيشة الضرورية، والالتزام بالمادة 40 من الدستور السوري التي تقول إن «لكل عامل أجر عادل حسب نوعية العمل ومردوده، على أن لا يقل عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيُرها».


10752


 (النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1075
آخر تعديل على الجمعة, 29 تموز/يوليو 2022 17:08