«أشباه الموصلات»: عصب الاقتصاد العالمي ينزاح شرقاً

«أشباه الموصلات»: عصب الاقتصاد العالمي ينزاح شرقاً

مع انطلاق ما يعتبرها البعض «الموجة السادسة» من الابتكار التكنولوجي العالمي، تتزايد باطراد حصة الإنتاج العالمي المعتمد على التكنولوجيا الفائقة في الاقتصاد اليوم. حيث وصلت حصة قطاع التكنولوجيا في بعض الحالات (مثل سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان) إلى ما يقارب 60% من الناتج المحلي الإجمالي. وبهذا المعنى، دخلت تقنيات أشباه الموصلات - التي تعتمد بشكل أساسي على السيليكون أحادي البلورية (المادة الأساسية لرقاقات السيليكون المستخدمة في جميع المعدات الإلكترونية تقريباً اليوم)- إلى قطاع الإنتاج العالمي بشكلٍ قوي، ابتداءً من أجهزة التلفزيون وليس انتهاءً عند رادارات الإنذار الصاروخي.

تسبب تعطّل سلاسل التوريد العالمية منذ ما قبل انتشار جائحة كورونا في نقصٍ كبير في عالم الرقائق الإلكترونية، ما أثّر بشكل خاص على صناعة السيارات والطائرات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية.
تميل وسائل الإعلام الغربية بمعظمها اليوم إلى مواصلة نهجها الرامي إلى تسطيح وتسفيه أزمة نقص الرقائق الإلكترونية، واعتبارها مجرد «مشكلة صناعية»، لكن الحقيقة أن هذا النقص يعتبر من أكبر الجوانب التي يمكن أن تسبب خللاً على المستوى العام لأمن الدول. ونتيجةً لذلك، قررت عدد من الحكومات اتخاذ تدابير حمائية أو توسعية جادة من أجل ضمان هذا الإمداد دون انقطاع لتلبية الاحتياجات المدنية والعسكرية.

من 12% إلى 9% فقط

تدرك الولايات المتحدة أن المعركة الدائرة على إنتاج الرقائق في العالم سيكون لها دور فاعل في قياس الوزن الاقتصادي للدول، لهذا تجهد بشكلٍ واضح لتحقيق استقلالية أمريكية كاملة في تصنيع هذه الرقائق. خاصة وأن حصة الولايات المتحدة من الإنتاج العالمي في عام 2021 كانت 12% فقط، وهي مرشحة على مدار السنوات الثلاث المقبلة أن تنخفض إلى أقل من 9%.
ولا تزال الشركات الأمريكية العملاقة، إنتل Intel وأبل Apple وإنفيديا NVIDIA وأيه إم دي AMD وميكرون Micron وبرودكوم Broadcom وكوالكوم Qualcomm وتكساس إنسترومنتس Texas Instruments، تملك براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية في هذا المجال، وتطور حلولاً تكنولوجية، إلا أنها كما درجت العادة وضعت إنتاج هذه الرقائق في شرق آسيا، وتحديداً في جزيرة تايوان التي تعدُّ اليوم «مركزاً عالمياً» لأشباه الموصلات، ولهذا، يمكن فهم قلق واشنطن من فكرة أن تعطّل وصول هذه الإمدادات من جزيرة تايوان سيكون له أثرٌ كارثيٌ عليها.
والواقع أن افتقار الولايات المتحدة إلى القدرة الصناعية والنقص العام في الرقائق الإلكترونية في البلاد، بالتوازي مع خوض مواجهة مركّبة مع الصين، دفع الولايات المتحدة إلى إدراج هذه القضية في مجال الأمن القومي. وبشكلٍ خاص، في آذار العام الجاري، عندما تحدث الرئيس الأمريكي، جو بايدن، صراحة عن أشباه الموصلات بوصفها «مشكلة أمن قومي حرجة»، لأن الولايات المتحدة مجبرة اليوم على الإنفاق بكثافة للحصول على منتجات التكنولوجيا الفائقة الموجودة في الخارج.


107413


ليس بمقدور واشنطن أن تفعلها

اتخذت السلطات الأمريكية عدداً من الخطوات لتحسين الإطار الإنتاجي للرقائق الإلكترونية، بما في ذلك اعتماد قوانين تهيئ إنتاج أشباه الموصلات لتلبية احتياجات الولايات المتحدة، من بينها «قانون خلق حوافز مفيدة لإنتاج أشباه الموصلات لأمريكا»، وقانون الابتكار والمنافسة (USICA) وبعض القوانين الأخرى.
ولم يتفق البيت الأبيض ومجلس الشيوخ بعد على تفاصيل هذه الوثائق، لكن الفكرة العامة هي تخصيص حوالي 52 مليار دولار لدعم هذه الصناعة. في الوقت نفسه، يعارض الرئيس التنفيذي لشركة إنتل، باتريك غيلسينغر، تمويل الشركات الأجنبية بشدة ويقترح إدراج الشركات «ذات الجذور الأمريكية» فقط في قائمة المستفيدين المحتملين من هذا التمويل. وهذا يترك مصير شركات مثل TSMC التايوانية وSamsung الكورية الجنوبية متأرجحاً في ظل عدم وجود جذور أمريكية لها، ذلك رغم أنها كانت تخطط لافتتاح مصنع رقاقات بقيمة 17 مليار دولار في ولاية تكساس الأمريكية بداية عام 2024.
في هذا الصدد، يعتقد تقرير للبيت الأبيض حول ضعف سلاسل التوريد مؤخراً أن القطاع الخاص قادر على حل مشكلة نقص أشباه الموصلات بمفرده، وأن مهمة الحكومة هي تقديم كل المساعدة الممكنة، وتجنب التدخل المفرط. لكن رغم ذلك، هنالك سؤال يؤرق الحسابات الأمريكية اليوم: إن مستوى التنظيم، والعبء الضريبي، وتكلفة العمالة داخل الولايات المتحدة أعلى بكثير من الخارج، فماذا سيحدث للقدرة التنافسية للمنتجات المصنعة في الولايات المتحدة؟ ألن يؤدي ذلك إلى خسائر مالية هائلة؟.
تقدِّر الوكالات الاستشارية أن تكلفة فتح وتشغيل مصنع لتصنيع الرقاقات الإلكترونية والدارات في الولايات المتحدة لمدة 10 سنوات ستتجاوز تكلفة تايوان أو كوريا الجنوبية بمقدار الثلث، أما في الصين، فسيكلف مثل هذا المشروع أقل من نصف التكلفة في تايوان! ما يعني أنه ليس هنالك ما يضمن أن أشباه الموصلات المصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية ستكون أرخص أو أفضل من نظائرها الأجنبية. ومع الأخذ في الاعتبار تقديرات المؤسسات التجارية حول تحوّل مركز إنتاج أشباه الموصلات إلى الصين ودول جنوب شرق آسيا في المستقبل القريب، فإن قلق واشنطن على وضعها المستقبلي مرشح للتفاقم أكثر.


107412


تصحيح وضع تاريخي

تستهلك جمهورية الصين الشعبية 6% فقط من الرقاقات الإلكترونية في العالم، في حين تشتري الولايات المتحدة وحلفاؤها ما يصل إلى 92%. وفي الوقت الحالي، لا تزال أمريكا تتمتع بإمكانية الوصول غير المقيد إلى ما تريد من الدارات والمكونات المتكاملة الحديثة. تنتج الصين كمية هائلة من أشباه الموصلات، لكن المستوى التكنولوجي الحالي لهذه الرقاقات يتخلف عن منافسة النسخ التايوانية أو اليابانية بجيلين، ما يحدّ من نطاق قدرات هذه الرقاقات بالنسبة لبعض الاستخدامات.
وتستطيع الشركات الصينية، مثل شركة SMIC، إنتاج رقائق بكثافة تتراوح بين 28 و14 نانومتر، في حين نجحت شركة TSMC التايوانية بالوصول إلى رقائق بكثافة 3 نانومتر فقط، ما ينعكس في زيادة كبيرة بالأداء ويسمح بتصغير المنتج النهائي. على سبيل المثال، تم تصنيع المعالج المركزي Apple A15 في تايوان، ما جعل من الممكن دمج حوالي 16 مليار ترانزستور وتوفير سرعة تشغيل تصل إلى 15.8 تريليون في الثانية.
تعتقد واشنطن أن الإمدادات المستقرة من منتجات التكنولوجيا الفائقة سوف تنقطع في حالة دخول الصين لجزيرة تايوان. ورغم أن سلطات تايوان أشارت إلى أنها تعتزم «الدفاع عن استقلالها» باستخدام الوسائل العسكرية، وصولاً إلى شن هجمات مضادة على مواقع في البر الرئيسي الصيني، إلا أنها لا تستطيع أن تلجم حالة الذعر التي تشعر بها، جراء اتضاح مستوى الجدية الصيني في التعامل مع المسألة، حيث ترغب الصين بتصحيح وضع «الأمر الواقع» الناشئ في جزيرة تايوان الصينية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، أي مرحلة السيادة الأمريكية على العالم.
وفي هذا الصدد، لا تدخر الولايات المتحدة فرصة لوعد جزيرة تايوان بالوقوف إلى جانبها في حال الدخول الصيني، بما في ذلك الوعود بإرسال الأسلحة الضرورية «لحماية الجزيرة». في المقابل، تؤكد الصين أن مضيها بالدفاع عن وحدة أراضيها لن يشوبه أي تردّد، وأن «الخطر الشيوعي» القادم إلى جزيرة تايوان ليس إلا محاولة أمريكية لزيادة السيطرة على المناطق الرئيسية للإنتاج العالمي. وتذهب الصين لتصيب بشكلٍ مباشر جوهر المشكلة، وذلك من خلال تأكيدها عدم وجود النية لضم الجزيرة بالقوة، وأن تدريبات الجيش الصيني تستهدف «أي طرف ثالث» من المحتمل أن يتدخل، في إشارة واضحة للولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
وفوق ذلك، وهو ما لا يتحدث عنه الإعلام كثيراً، أقامت بكين في وقت سابق بعناية علاقة من الترابط الاقتصادي مع تايوان لإشراك الجزيرة في خطط صناعية وتكنولوجية وتجارية مشتركة، من أجل وضع الأساس للتكامل اللاحق. لكن مع جائحة كورونا، وتصاعد المشاعر المعادية للصين في الولايات المتحدة وحلفائها، قلصت فرص الحوار المثمر بين الجانبين.


107414


الكماشة الروسية الصينية

اليوم، تضطر تايوان في الواقع إلى دفع تكاليف أمنها العسكري والدعم الدبلوماسي المقدّم لها من جانب الولايات المتحدة من خلال تزويد الأخيرة واليابان والاتحاد الأوروبي بإمكانية الوصول الحصري إلى تقنياتها الفريدة وقدراتها الصناعية.
بالتوازي مع ذلك، وفي محاولة لإرضاء شركائها الأمريكيين، أوقفت شركة TSMC التعاون مع روسيا. ليعرب الموردون الماليزيون بدورهم عن رغبتهم في احتلال مكانة الموردين التايوانيين في السوق الروسية.
والمسألة الأهم، أنه يجري إغفال أن لدى الصين وروسيا اليوم فرصاً حقيقية للحد من وصول مصنّعي أشباه الموصلات في العالم إلى المواد الخام اللازمة (الفلور العضوي، والنيون، والبلاديوم، والنيكل، والبلاتين، والروديوم، والتيتانيوم). فبعد انطلاق العمليات العسكرية في أوكرانيا، زادت تكلفة بعض أنواع المواد تسعة أضعاف. وتسبّب ذلك في حالة من الإرباك لدى شركات تكنولوجيا المعلومات فيما يتعلق بحجم الإنتاج وتسعير المنتجات النهائية. وبالإضافة إلى ذلك، لم تعد أوكرانيا، التي تزود العالم بما يصل إلى 40% من النيون، قادرة على تصديره عن طريق البحر.
اليوم، المالكون الرئيسيون لهذا الغاز النادر هم روسيا والصين اللتان تحصلان عليه كمنتج ثانوي لصناعة الصلب. وتنتج روسيا أيضاً 45% من البلاديوم في العالم، ولديها أكبر احتياطيات مؤكدة من هذا المعدن، وتوفر أكثر من 20% من سوق التيتانيوم العالمي، و12-14% من النيكل والبلاتين، و10% من الروديوم، ما يجعلها تملك مقومات أن تكون أحد عمالقة تكنولوجيا المعلومات، حتى دون القدرة على إنتاج الإلكترونيات المعقدة بمفردها في المستقبل القريب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1074
آخر تعديل على الإثنين, 13 حزيران/يونيو 2022 09:32