كيف تردّ أمريكا على تنافسيتها الضعيفة في سوق الطاقة؟
تتالى الصفحات التي تحاول أن تفهم وتشرح سبب تمسّك الولايات المتحدة، وذيولها في أوروبا، بالتوتير مع روسيا عبر أزمة أوكرانيا. ورغم أنّ الانتفاع الاقتصادي للأمريكيين من عزل الروس عن بقيّة أوروبا- ممّا يمنحهم الفرصة لبيع أوروبا النفط والغاز الصخري الأمريكي- يبدو غير قادر على شرح المسألة ككل، إلّا أنّه يضيء على جانب من المحاولات الانتهازية لأمريكا المتراجعة.
ينادي بعض السياسيين الأمريكيين بالأمر علانية وبشكل مباشر، تدعمهم في ذلك وسائل الإعلام السائدة التي تبشّر الأمريكيين بمنفذ اقتصادي جديد. يقوم المحللون بالتلميح إلى أنّ بيع الولايات المتحدة الغاز والنفط الصخري إلى أوروبا– ورغم أنّه ليس الهدف الرئيسي من التوتير– فهو يؤمّن استمرار تعطيل الانعطاف الأوروبي، ويخلق هامش ربح يمكن التشويش من خلاله على الأهداف الحقيقية.
تريد الإدارة الأمريكية أن يحدث كلّ ما هو لازم لتوتير الأوضاع أكثر بين أوروبا وروسيا، وأن يبقى الغاز الروسي بعيداً عن بقيّة أوروبا بأيّ ثمن.
اجتماع تشاتام هاوس
في 2015، عُقد في لندن اجتماع تحت مسمى قواعد دار تشاتام، حيث بقيت هويات المشاركين الذين أدلوا بالتصريحات أو «الحقائق» كما تمّت تسميتها، مخفيّة. عُقد المؤتمر برعاية من مركز جامعة كولومبيا لسياسات الطاقة العالمية، وحمل عنوان: «دور نفط تكسير الولايات المتحدة في أمن وتجارة الطاقة الأوروبية». جلس خبراء بارزون بالنيابة عن الأوساط الأكاديمية والحكومية والصناعية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات البحثية، حول مائدة مستديرة. ومن المثير للاهتمام أنّ التقرير النهائي الطويل قد اعتبر بأنّ الربيع العربي، والأزمة الأوكرانية الروسية، هما أكبر مغيّران للعبة، واللذان يشكلان «تحدياً» لأمن الطاقة في أوروبا. التفاصيل المذكورة في التقرير كثيرة، لكنّ خلاصتها أنّ المستهدف هو روسيا.
المناقشات في الاجتماع والتقرير اللاحق يعاملان الأحداث الجيوسياسية، وتدفقات الطاقة والأرباح، كمتغيرات مستقلة عن بعضها البعض. هذا أمر غريب، فعلى الرغم من أنّ النقاش يدور حول مواضيع تتعلّق باعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، وقضيّة أوكرانيا، وكيف يمكن للغاز الصخري الأمريكي أن يملأ الفراغ الذي قد تسببه تداعيات العلاقات الدولية «غير المعتادة»، لكنّ خطاب هؤلاء «الخبراء» يخون الحقيقة الأساسية– كما هو الحال دائماً– فهذا مقطع من التقرير:
«سلطت الخلافات بين روسيا وأوكرانيا- والتي أدّت إلى وقف إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا بين عامي 2006 و2009- الضوء على ضعف أمن الطاقة في أوروبا، والذي نتج عن اعتماد القارة الشديد على موسكو في إمدادات الطاقة. لم يؤدِ هذا الاعتماد إلى تعقّد قدرة الاتحاد الأوروبي على الاستجابة لأحداث.. مثل: المغامرة الروسية الأخيرة في أوكرانيا وحسب، بل جعل أوروبا أيضاً أسيرة لشركة الغاز المملوكة للدولة الروسية: غازبروم، ولسياساتها في التسعير».
كما نرى، ركز خبراء الطاقة وأصحاب المصلحة الذين اجتمعوا في لندن بشدة على أرباح شركة غازبروم، أكثر من اهتمامهم برفاه الأوروبيين وأمن طاقتهم. الذي يقرأ التقرير بأكمله، سيفهم الرابط بين ما حدث خلال الربيع العربي، وفي أوكرانيا، قبل سنوات ممّا حدث في القوقاز، وقبل سنوات أيضاً من الأحداث الأخيرة في كازخستان.
منذ فتحت الولايات المتحدة الطريق أمام مخزونها من الطاقة، بات لديها سبب إضافي لإعلان الحرب على بقيّة العالم: على روسيا نظراً لموقعها التاريخي وبحر الموارد الموجود فيها، وإيران وفنزويلا وليبيا ودول أخرى غنية بالنفط كمحور تركيز ثانوي.
يمكن أيضاً في محضر اجتماع لندن أن نجد الاستراتيجية الحالية التي تتبعها إدارة بايدن. بين سطور مناقشة جامعة كولومبيا، حيث يتمّ تحديد الجوهر الحقيقي لمشكلة ضعف الولايات المتحدة وفقدان القدرة التنافسية أمام الغاز الروسي. تقول فقرة أخرى:
«تتمتّع روسيا بقدرة إنتاجيّة كبيرة معطلة في منطقة إنتاج سيبيريا الغربية القديمة، حيث يتمّ إغراق جميع التكاليف تقريباً. من ثمّ، يمكن لروسيا زيادة مستويات الإنتاج بسهولة دون القيام بأيّة استثمارات جديدة إذا قررت [إخراج] الغاز الطبيعي المسال الأمريكي من السوق الأوروبية». قد يرى البعض في الأمر انتهازية أمريكية، لكنّ هذه هي الحقيقة المرّة الصريحة.
عزل الروس هو السبيل
في النهاية، يمكن للأمريكيين الذين يريدون أن يستفيدوا من عدم السماح لأوروبا بالتحوّل عبر بيع نفط وغاز تقنية التكسير، أن يحققوا مبتغاهم فقط في حال تمّ عقاب الروس وإخراجهم من سوق الطاقة الأوروبي. هذا ما كان «خبراء» شركات الطاقة الكبرى الذين التقوا في لندن واضحين فيه. عقود الطاقة الأوروبية مع روسيا ملزمة بمعظمها حتّى عام 2025، عندما تنتهي العديد من عقود غازبروم.
يريد الأمريكيون أن يتوقف الأوروبيون عن استيراد طاقتهم من روسيا، وألّا يجددوا العقود معها، فبهذه الطريقة يحقق الأمريكيون الكثير، ومن بين هذا الكثير تحقيق المصالح الأمريكية ببيع الطاقة والسياسة لأوروبا كبديل عن روسيا. ليس أمام الأوليغارش الأمريكيين فرصة ليبيعوا نفطهم الصخري دون إخراج الروس من السوق.
يتناول التقرير المذكور أيضاً النفط الخام، ويركز من جديد على الواردات الروسية، ولكن بشكل خاص على الدول غير الساحلية، مثل: سلوفاكيا والمجر وجمهورية التشيك، أو بولندا، التي تستخدم نظام خط أنابيب Druzhba. لقد حللت جماعة تشاتام ذلك عندما كانت روسيا تزوّد أوروبا بثلث احتياجاتها من النفط الخام.
في النهاية، يدور كامل الأمر حول التفضيل الروسي بسبب التسعير والهوامش. لا يمكن لإنتاج النفط والغاز غير التقليدي في الولايات المتحدة أن ينافس روسيا بكل بساطة، أو حتّى قدرات أوبك، ولا يتعلق الأمر فقط بالمسافات التي ينطوي عليها نقل النفط. النفط والغاز الصخريين باهظا الثمن، وأحد الأسباب التي نرى فيها الأمريكيين يجاهدون لتأمين سوق لنفطهم وغازهم الصخري هي الخسائر المدمرة في الإيرادات التي تسببت بها الأسعار المنخفضة لأثرياء الطاقة في الغرب.
مسألة الحسد الذي يشعر فيه الأمريكيون من روسيا– وشعورهم بالعجز أمام قدراتها التوريدية الهائلة، الأمر الذي قد يساعد الأوروبيين على التحوّل عن الأمريكيين– ليست بالجديدة. في تقرير صادر عن معهد بروكينغز في آذار 2002 بعنوان «روسيا: القوة العظمى في مجال الطاقة في القرن الحادي والعشرين؟»، يمكن تلمّس المزيد من الحسد والقلق الذي يقضّ مضجع واشنطن منذ عقود. لنرى جزءاً من تقييم التقرير قبل عشرين عاماً:
«تتجاوز احتياطات روسيا من الغاز بكثير تلك الموجودة في أيّة دولة أخرى. في الواقع، روسيا بالنسبة للغاز الطبيعي مثل السعودية بالنسبة للنفط. مع 32% من الاحتياطات العالمية المؤكدة، تتفوق روسيا بكثير على إيران [15%]، وقطر [7%]، والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة [4%]، والولايات المتحدة والجزائر [3%]. تملك شركة الدولة غازبروم وحدها ربع احتياطات الغاز العالمية، وتسيطر على 90% من الإنتاج الروسي، وهي أكبر مَصْدَر للعملة الصعبة لروسيا».
لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل هذه الحقائق وتبقى ساكنة بانتظار ركلها خاوية الوفاض من كلّ شيء، ولهذا تحاول عزل روسيا عن أوروبا.
بتصرّف عن:
Can the World Handle the Truth about the West-East Crisis?
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1056