فاشية عالم ما بعد الوباء... جاك أتالي نموذجاً
جاك أتالي، هو اقتصادي وعالم اجتماع وأحد أبرز الوجوه المنظرّة حول مصير المنظومة العالمية اليوم، إنّ صاحب الـ 55 كتاباً هو أحد المفكرين المعولمين على نطاق واسع، ويتكرر اسمه اليوم كمنظر لإعادة الهيكلة الاجتماعية ورسم مسارنا المستقبلي: عالم ما بعد الوباء وأهمية الصحة والرعاية الاجتماعية، خطاب مغلّف (بالإنسانية) إلى درجة أنّه يصعب استشفاف ما وراء الأغلفة لمقولات أحد أبرز موظفي المنظومة.
أتالي، ليس كاتباً فقط، بل هو موظف رفيع: المستشار السياسي والاقتصادي للرئيس الفرنسي ميتران، والرئيس الأول للبنك الأوروبي للتنمية وإعادة الإعمار، مترأس لعدد من اللجان الحكومية الفرنسية، وصاحب مؤسسة استشارات تكنولوجية دولية، والعضو الدائم في منتدى دافوس (منتدى النخبة العالمية).
الاقتصادي الروسي فالنتين كاتاسانوف، يستجيب لنقاش واسع للرواد الشباب اليوم حول (مقولات جاك أتالي)، ويعود إلى المقابلات الأولى له التي توضّح إلى حد بعيد أية إعادة هيكلة يراها رجالات المنظومة الغربية منذ الثمانينات... لتوضيح (طبيعة التغيير) الذي يريده هؤلاء.
ضمن سلسلة مقابلات أجراها الصحفي الفرنسي ميشيل سالومون مع أتالي في عام 1981 وردت الأسئلة والردود التالية، والمنشورة في كتاب «مستقبل الحياة».
(البشر: منتج اقتصادي يحتاج لتطوير)
يطرح سالومون السؤال: لماذا فجأة يهتم الاقتصادي جاك أتالي بالمسائل الصحية التي تبدو بعيدة عن الاقتصاد؟ ويجيب أتالي: (أحرز الغرب تقدماً مذهلاً في التصنيع بفضل الآلات. وتسارعت إنتاجية الآلة بمستويات قياسية... ولكن بالإضافة إلى الإنتاج التقليدي للسلع المادية، هناك أيضاً إنتاج وتكاثر البشر، الذي يجري عبر التعليم والرعاية الصحية. وهنا، لم تحدث تطورات كبرى! والثورة التي حصلت في مجال الإنتاج الآلي، لم تحدث في مجال إعادة الإنتاج البشري، وهي مطلوبة).
(ما هو المُنتج المطلوب في مجال الإنتاج البشري؟) يتساءل أتالي، ويُجيب: (هناك حاجة إلى الإنسان السليم. أولاً: لأن الهدف الأعلى للاقتصاد هو السعادة البشرية، ولكن، ما نوع السعادة التي يمكن أن نتحدث عنها إذا كان الشخص مريضاً ويعاني جسدياً؟ ثانياً: إن تكاثر الشخص المريض مكلف للغاية بالنسبة للمجتمع. يُصبح مثل هذا الشخص عبئاً على الأصحاء المنخرطين في العمل الفعال).
وهنا أتالي يطرح رؤيته للإنسان السليم والمعافى وللمنطق الاقتصادي للرعاية الصحية قائلاً: (إن الهدف ليس زيادة متوسط العمر المتوقع للإنسان، بل تحقيق أقصى قدر من الحياة الصحية).
أي عمر قصير وفعال اقتصادياً، ويخلص ليقول: (في منطق المجتمع الصناعي ذاته، سيكون الهدف ضمان أن يعيش الناس بأفضل شكل ممكن خلال فترة حياة معينة، ولكن بطريقة تجعل تكاليف الرعاية الصحية بأقل تكلفة على المجتمع).
فالمنتج الإنساني الفعّال، هو المنتج صحيح البنية، بينما ضعيف البنية هو عبء اجتماعي، وهو سلعة عالية التكلفة وغير اقتصادية... ومن هنا يدخل أتالي إلى مفاهيم حول قواعد مجتمع المستقبل وطبيعة الرعاية الطبية، ومفاهيم (أكثر تطرفاً).
(إدارة إنتاج الأطفال)
بالنسبة لأتالي، إنه من الطبيعي إدارة إنتاج الأطفال باعتبارهم سلعة ومنتجاً هاماً، مجادلاً: (بمنطقي، من المستحيل أن نفهم لماذا لا ينبغي أن يصبح الإنجاب إنتاجاً اقتصادياً مطابقاً لأي إنتاج اقتصادي آخر! من الممكن تماماً أن نتخيل أن الأسرة أو المرأة ليست سوى وسيلة من وسائل إنتاج شيء معين: وهو الطفل. تتوافق هذه الفكرة تماماً مع التطور الاقتصادي بمعنى أن المرأة أو الزوجين سيصبحان جزءاً من تقسيم العمل والإنتاج العام، وبالتالي، سيكون من الممكن شراء الأطفال بنفس الطريقة التي نشتري بها الفول السوداني أو التلفاز).
وفق منطق أتالي، فإن الأزواج الأصحاء يجب أن ينتجوا أطفالاً بشكل محدد، وفق حاجة المجتمع المعين لزيادة عدد السكان أو لعدد أقل، وهؤلاء الأطفال هم سلع تُنتج للمجتمع ويمكن عرضها للبيع، عبر نقل الأطفال إلى أسر أخرى بمقابل مادي. أمّا الأشخاص غير الأصحاء فهؤلاء تكاثرهم، مكلف اقتصادياً. ما يعني أنّه (لمصلحة المجتمع الاقتصادية) يمكن منعهم من التكاثر... ربما أكثر من ذلك، منعهم من الحياة.
(القتل الرحيم) والانتحار قاعدة لمجتمع المستقبل
يناقش أتالي بشكل مكرر في فكرة: المتوسط المرتفع للعمر، ويعتبره واحداً من تحديات المجتمعات المتقدمة، نظراً لارتفاع تكاليف الرعاية الصحية لهؤلاء! وبمفهومه ليكون العمر البشري فعالاً اقتصادياً، فإن هذا يتطلب عملياً تقصير فترة الحياة غير الفعالة، وهنا يدخل أتالي للحديث المنمق عن (القتل الرحيم) بوصفه (خدمة/ سلعة) ستقدمها الرعاية الصحية مستقبلاً: (القتل الرحيم سيكون أحد أهم أدوات مجتمعنا المستقبلي... المنطق الاشتراكي هو الحرية، والحرية الأكبر هي الانتحار... في المجتمع الرأسمالي ستظهر آلات القتل، وإعادة توزيع الأعضاء، لتسمح بتدمير الحياة عندما تكون غير محتملة أو باهظة الثمن اقتصادياً، وستصبح هذه الممارسات شائعة. أعتقد أن القتل الرحيم سواء كان بحرية الشخص أو باعتباره خدمة مقدمة له، سيكون أحد قواعد المجتمع المستقبلي).
(الأخ الأكبر) و(أكل لحوم البشر)
يتحدث أتالي المهتم بالتكنولوجيا والعلوم الطبية إلى حد بعيد، كيف ستكون التكنولوجيا طريق المراقبة الصحية الشاملة للمجتمع. قائلاً: (أعتقد في الشمولية الخفية مع الأخ الأكبر* غير المرئي واللامركزي. فإن آلات المراقبة الصحية الموجودة لمصلحتنا، وسوف تستعبدنا لمصلحتنا. سنخضع لمراقبة لطيفة ومستمرة لحالتنا، سيكون لكل شخص سجل طبي ويتم تخزين هذه الملفات مركزياً على الكمبيوتر).
وفق أتالي، فإن الطب مهنة سوف تتراجع الحاجة إليها تدريجياً: (الطب اليوم لا يستطيع أن يعالج كل الأمراض، لأن هذا عالي التكلفة) بمفهومة فإن الطب القديم يحتاج إلى إعادة هيكلة ليكون أكثر فعالية اقتصادياً، وليكون (أكثر جرأة على إدخال الأعضاء الاصطناعية... لماذا مثلاً تعالج القلب بينما يمكن استبداله بقلب آخر صحي تأخذه من متبرع، أو تصنعه؟)
مضيفاً: (المنطق بسيط: إذا كنت تريد أن تعمل الآلة/ الإنسان بشكل صحيح، ولفترة طويلة، فاستبدل الوحدات والأجزاء القديمة بأخرى جديدة، تعال إلى المتجر واشتر قطعة جديدة، سيكلفك أقل مما لو لجأت إلى مساعدة مصلح أو طبيب).
إنّ هذا ما يسميه أتالي: (أكل لحوم البشر) في تعبير مجازي عن: (استبدال الأجزاء المستهلكة من بعض الناس، واستخدام الأجزاء الصحية للآخرين، إنّ أكل لحوم البشرة هو قوة علاجية هائلة)، وهو يرى هذا النوع من الرعاية الصحية الذي يستخدم أعضاء الأحياء أو الأموات لزيادة إنتاجية الإنسان، هو النمط الطبي الأكثر فعالية اقتصادياً. تحويل الطب إلى ورشة إصلاح واستبدال، من العناصر الضعيفة أو التي يجب أن (تموت موتاً رحيماً) إلى العناصر التي يجب أن تبقى فعالة ومنتجة.
وبالفعل، فإن ما يراه جاك أتالي يتحقق، فها هي سوق الإتجار بالأعضاء البشرية تقارب 600 مليون دولار سنوياً، وفق الأمم المتحدة. والأعضاء المباعة بـ 25 ألف دولار يُدفع منها للمتبرعين اليائسين ما يتراوح بين 5-15 ألف دولار، كما في فضيحة هزت المجتمع الأوكراني عام 2021. حيث يربح (أكلة لحوم البشر) أرباحاً هائلة من المتاجرة بالأعضاء.
(الخطاب الفاشي) لم يغب عن الساحة الدولية، وهو حاضر بقوّة اليوم في التنظيرات لعالم ما بعد الوباء، وما سبق من حديث جاك أتالي هو نموذج عن ذلك. شكلياً الرعاية الصحية و(الإنسان) هو العنوان العريض والمبرز، ولكن عملياً فإن الإنسان المطلوب الاعتناء به هو (الإنسان القوي والفعّال اقتصادياً)، بينما الباقون العناصر الأضعف: كبار السن، المرضى... فهؤلاء عبء اقتصادي، ويجب أن نفتح لهم باب القتل الرحيم، ونحوّل الطب إلى ورشة تستفيد من أعضائهم لإعادة تأهيل الناس المنتجين. المقولة الصريحة لهؤلاء المنظرين، أن المنظومة يجب أن تنتقل من تحويل قوة عمل الإنسان إلى سلعة، لتحويل الإنسان بذاته إلى سلعة: يُدار إنتاجها البيولوجي بمنطق الكلفة والربح، عبر المنظومة العالمية- قسم (الرعاية الصحية)!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1025