2020: عام قاسٍ انتهى... فهل يمَرّ فعلاً؟ ... البنية الاقتصادية السياسية تبلغ ذروتها
ظهرت في عام 2020 كل آثار تفسخ البنية الاقتصادية السياسية السورية بأوضح أشكالها، فالضغط الذي فرضته العقوبات الإجرامية كأداة أمريكية في المعركة كشف حجم وهن البنية ومدى ارتهانها لمصالح المرتزقة في نهاية المطاف، وهو ما يجعل هذه المرحلة انعطافية في عمر البلاد، إذ وصلت هذه البنية إلى لحظة: إمّا بقاء البلاد أو بقاؤها هي!
نقصد بالبنية الاقتصادية السياسية، طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس النشاط الاقتصادي أو علاقات الإنتاج التي تربط الطبقات والشرائح مع بعضها البعض... والتي يعتبر المُلك والحكم أساساً فيها.
وإن بدت المفردات معقّدة فإن الوقائع واضحة وبسيطة وكلّنا يعرفها، ويمكن لأبسط عملية إنتاجية أن تعبّر عنها، وعوضاً عن مفردات السياسة يمكن أن نستخدم مفردات الواقع كمثال حي، وللمفارقة سلسلة إنتاج الدواجن خير مثال...
سلسلة الدواجن كنموذج لهرم الملكية والقوّة
مثلاً حين نستهلك جميعنا الفروج والبيض، فإن هذا يربطنا كمجتمع مستهلكين واسع مع شريحة أضيق من مربي الدواجن في ريف دمشق وحماة والساحل وغيرها، وهؤلاء ينتجون أو لا ينتجون بناء على العلاقة التي تربطهم بسوق الاستهلاك وسوق التكاليف: فإن أعطتهم السوق ربحاً وسّعوا إنتاجهم، وإن زادت تكاليفهم وباعوا بخسارة سيتراجع إنتاجهم إلى حدّ التوقف (كما حصل في العام الماضي عندما وصلت معدلات تراجع إنتاج البيض والفروج إلى 75%).
أما سوق التكاليف التي تحدد حجم أرباح منتجي الدواجن، فهي تربطهم مع شريحة أضيق، هي مصانع الأعلاف المعدودة، تلك التي تخلط الذرة الصفراء والكسبة وتركّب الأعلاف، وهي تشكّل أكثر من 70% من تكاليف الإنتاج، وتتغير أسعارها وفقاً لتغيرات السعر الذي تحدده الشريحة الأعلى في هرم السوق... وهي مجموعة مستوردي الأعلاف لسورية، وهؤلاء نادٍ ضيّق قد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة ممن يتوزع عليهم ربح الاستيراد! وهم بدورهم يربطون ربحهم بسعر الدولار مقابل الليرة... أي: يرتبطون بعلاقة مع السوق العالمية، ومع معدل الربح في القطاعات الأخرى، فلا يرضون بربح أقل، وإلا ابتلعهم الأقوياء الآخرون!
هذه هي الشرائح الهرمية الأساسية التي تكوّن سلسلة إنتاج الدواجن في سورية، رغم وجود العديد من الحلقات المرتبطة: النقل، توزيع الجملة والمفرق، المزارع التي تربي الأمّهات، مؤسسة الدواجن، مهرّبي الفروج المجمّد، والحواجز التي تتربص بكل الطرق، وتحصل على إتاوات.
عموماً، تتوزع الخسارات والمكاسب الاقتصادية في سلسلة إنتاج الدواجن بناء على الهرمية المذكورة، فكلما ضاقت شريحة الملكية، أي: كان عدد مالكي الموارد أقل كلما كان ربحهم مضموناً أكثر، والعكس بالعكس.
ورغم أن الإنتاج والاستهلاك هو الحلقة الأهم في سوق الدواجن، إلّا أن الحلقة الحاسمة في هذه السلسلة هي أعضاء نادي استيراد الأعلاف، فهم يستطيعون أن يتحكموا بالسعر ليحافظوا على أعلى مستوى ممكن من الربح من خلال احتكارهم لهذه الحاجة... والاحتكار تتيحه مواردهم المالية الكبيرة، وبالتالي قدرتهم على التحكم بالقرار وإغلاق النادي وحصره على أعضاء محددين، وهم مثلاً: يفرضون أرباحاً أعلى من تكلفة استيرادهم المسجّلة في الجمارك بنسبة 185%، يوزعون حصة منها على حلقات القوّة الأعلى، التي تضمن عدم فكّ النادي ومصادرة أمواله، ويوزعون حصة للمصارف والشحن وعموم السوق العالمية التي تضغط من خلال العقوبات، ولكنهم يجنون الكثير أيضاً مستفيدين من الظرف.
يحدد الأسعار كبار سوق الأعلاف، وإن أدى هذا مع ارتفاع التكاليف في السوق إلى تراجع الإنتاج والاستهلاك، فإنهم سيستوردون كميات أقل بربح أعلى... ويحولون جزءاً من دولاراتهم وأموالهم إلى قطاعات أخرى تحقق أعلى معدل ربح ممكن: فيضاربون بالدولار والعقارات، أو يتاجرون بالممنوعات، أو يدخلون سوق التهريب، أو أي مجال أعلى ربحاً تتيحه السوق السورية اليوم. فيبقى ربحهم مضموناً، ولكن يتراجع إنتاج الدواجن واستهلاكها ويتوسع الجوع.
في هذه السلسلة أيضاً الأكثر خسارة هم الأكثر ضعفاً، من لا يملكون إلّا دخلاً قليلاً شهرياً، يحاولون الحصول على لحم الفروج أو البيض بجزء منه لتغذية أسرهم، ولكن هذه المحاولات تفشل كلما نجح من هم في أعلى الهرم في ضمان احتكارهم وربحهم. إذ أصبحت تكاليف استهلاك الحاجة الضرورية من البيض والفروج فقط لأسرة تتطلب 45 ألف ليرة شهرياً، بينما لا يزال الأجر الوسطي 60 ألف ليرة!
عرش النخب يهتز: تنافس ومليشياوية
على مقياس مثال الدواجن يمكن أن نقيس... الأمر ذاته في السكر، في الزيت، في اللحوم، في الحليب والألبان، وفي الطاقة والأسمدة، وحتى في الخبز والطحين والدواء وغيرها..
في كل قطاع حيوي وضروري هنالك حلقة ضيقة ونادٍ في أعلى الهرم يمتلك أعضاؤه أكبر الموارد، ويحددون مسار السوق والتسعير وحجم الربح، ويمتلكون القرار والحكم بما يتعلق بهذا القطاع، ويدفعون «المعلوم» لضمان امتيازاتهم هذه، التي لا يستطيع أحد أن يزيحها إلّا من يمتلك قوّة أكبر: مالية أو سياسية.
في 2020 جرت تحولات حتى على النخب المتركزة في النوادي وضمن أعلى هرم الملكية، فهؤلاء عندما يبتلعون الإنتاج بربحهم الاحتكاري، ويقلّصون الاستهلاك إلى حد الجوع... عندما يولّدون بثرواتهم الفقر، فإنّهم عملياً يؤسسون لاهتزاز عرش هذه الثروات وهذه البنية السياسية الاقتصادية. ويصبح التنافس على اقتسام السوق المتآكلة على أشده بين كبار المالكين، ويزداد بالمقابل ارتباط هؤلاء بقطاعات الفوضى والقوّة، التي تقوّض الدولة مالياً حتى تصبح غير قادرة على تأمين الأساسيات بالحد الكافي، وتقوّضها أمنياً حتى تصبح غير قادرة على مواجهة قطاعات الفوضى... وهذا ما ينعكس بأن يصبح تحصيل أعلى ربح عبر سوق الكبتاغون والحشيش التي يصل حجمها إلى ما يقارب حجم مجمل الناتج السنوي، وسوق التهريب دخولاً وخروجاً، وسوق المتاجرة بالدولار والليرة، وعموم ظواهر السلبطة والاعتداء وسطوة الميليشيات. وهي ظواهر غير قابلة للاستدامة، لأنها لا تقوّض الدولة فقط، بل عموم المجتمع، وتدفع نحو عتبة انفجار أو تفكك أعمق وأعنف.
البنية السياسية الاقتصادية في سورية، عمادها الأساس الاحتكار المحمي بالامتيازات والقوّة... والفساد هو جزء أساس ضمن هذه البنية، لأنه يعتمد تاريخياً على ملكية جهاز الدولة كأداة لضمان هذا المستوى الاحتكاري، وهو اليوم يفتت هذه الملكية ويوزّعها على قوى الفوضى التابعة له.
إن الانعطافة التي تمثلها 2020 تقوم على سقوط آخر أوراق التوت التي تغطي عورة هذه البنية، وظهور ارتهانها للربح حتى لو كان إجرامياً، وحتى لو دفع البلاد إلى عتبة فوضى وتقسيم، وحتى لو قلّص أعمار الملايين جوعاً وبرداً وحرماناً، وهو ما لا يمكن أن يستمر، فإما الفوضى التي نمشي بها قدماً... أو تغيير البنية سياسياً عبر تعبئة قوّة المجتمع لتفكيك المنظومة تدريجياً، علَ البلاد تتنفس مجدداً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 999