البناء الاقتصادي والاجتماعي...حوار موسّع يؤسس لمنتدى جديد!
الجمع بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي... أحد الميزات التي شهدتها ندوة المركز الثقافي العربي في أبو رمانة في دمشق التي عُقدت بتاريخ 8-12-2020. الندوة التي كان عنوانها: «الاقتصاد المتعافي والتوازن الاجتماعي» عكست جزئياً بحواراتها ومداخلاتها اللحظة المفصلية التي يعيشها الوضع الاقتصادي السوري وحالة الخطر التي تعيشها البلاد.
تحت عنوان الحوار الاقتصادي- الاجتماعي الوطني، أتت الندوة التي دعا إليها مجموعة من السوريين المهتمين بالشأن العام، وقدّم فيها ثلاثة محاضرين أساسيين عرضهم مع جملة مداخلات هامة، في حضور واسع قياساً بالندوات التي تشهدها «المنابر الثقافية» السورية في هذه الأيام الصعبة.
وضع دراماتيكي وعلى مفترق طرق
ضمن محورين: البناء الاقتصادي والبناء الاجتماعي... أتت مداخلات المحاضرين الأساسية. د. زياد عربش بطريقته الخاصة، قدّم عرضاً اقتصادياً رشيقاً، ليبدأ بالقول بأننا في وضع دراماتيكي، وعلى مفترق طرق، إذ إنّه منذ عام 2019 بدأنا بما يشبه «السقوط الحر» وفي الأسابيع الأخيرة يبدو أننا نصل إلى منعطفٍ، فإما تدهور أو تقدم للأمام، مشيراً إلى أن الوضع المتمثل في تداعٍ لرافعة المجتمع هو الخطر الأكبر، وذلك في معرض حديثه عن حال الشريحة الشابة، وتحوّل «الهجرة» إلى أمل هؤلاء مع كل ما يحمله هذا من دلالات.
تحدث د. عربش عن 3 فجوات أساسية متمثلة في الوضع السوري، الأولى: تسبق الأزمة الحالية، وكل ما كان يحتقن في الواقع السوري، وقد لخصها بالمفارقات بين نمط معيشة «يعفور» و«الحجر الأسود» في إشارة للمفارقات الطبقية الحادة، وتباين الواقع الاجتماعي للسوريين. منوهاً إلى نسبٍ تلخّص الكثير: 70% سكن عشوائي، و70% من القطاع الخاص غير نظامي.
الفجوة الثانية: هي مفاعيل الحرب، وما أضافته على كل الوقائع السابقة، ودمار البنى التحتية والموارد والهجرة، أما الفجوة الثالثة: فهي الوضع الحالي، وجملة إجراءات التيسير والتسهيل التي لا تؤتي نفعاً...
الكثير من المقترحات مرّت في تعليقات د. عربش، الذي حاول أن يؤكد أن مداخلته إيجابية، لأنّه يعتقد بأن المقولتين المتكررتين بأنّه «ما من موارد وما من بشر» هي مقولات خاطئة، وأن الموارد متوفرة، وربما أقلها ما تشير إليه تقارير الرقابة المالية بوجود عشرات المليارات المجبية من حالات فساد في فترات قريبة. كما أشار إلى أن تعبئة الموارد ممكنة في حال وجود تسهيلات جدية، لأن معدل عائد الاستثمار في سورية قد يفوق اليوم 50% بالمقارنة مع معدلات قد لا تتجاوز 0.5% في أوروبا نتيجة كثافة الطلب في سورية، في حال انطلاق العجلة الإنتاجية وتوسع القدرة الشرائية.
يقول د. عربش: بأن سورية تحتاج إلى عقدٍ اجتماعي جديد عموماً، وأن إحدى طرق محاربة الفساد، هي تفعيل دور مجالس المجتمع المحلي المنتخبة لتدير الأموال العامة وتراقب عمليات الإنفاق.
الاحتقان الشعبي لا يخفى على أحد
الأستاذ زياد غصن، الباحث والصحفي الاقتصادي، بدأ مداخلته بالقول: بأن هنالك شبه اتفاق عام أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد باتت أكبر وأخطر من الأزمة السياسية، وهي تهدد معيشة ملايين السوريين في كل مناطق البلاد، تحت سيطرة الدولة وخارج سيطرتها، وفي مخيمات اللجوء.
اعتبر أ. غصن، بأنه رغم استعصاء التسوية السياسية، إلّا أنّه يجب العمل من داخل المجتمع قدر الإمكان. لأن الأزمة الاقتصادية اليوم بدأت تهدد الموارد التي نجت من الحرب، وتهدد السلم والأمن الاجتماعي، حتى إنها تمثل تهديداً للحل السياسي ذاته.
متسائلاً: «هل المواطن قادر على تحمل المزيد من الضغوط الاقتصادية حتى تؤتي عملية التغيير ثمارها؟!».
في وجهة نظره لما ينبغي فعله، يعتبر غصن بأن إعادة البناء الاقتصادي يجب أن تتم على محورين: مرحلي، وإستراتيجي.
في المرحلي، الهدف الأساس هو: تخفيف حدة الضغوط الاقتصادية والمعيشية، والحد من عمليات استنزاف الثروات الوطنية ونهبها. ومن ضمنه إيجاد الطرق المناسبة والفعالة لمواجهة العقوبات الاقتصادية، بإعادة النظر بآليات مشتريات الجهات الحكومية، وإعادة هيكلة الخطة الإنتاجية لجهة المحاصيل الرئيسة، وتدقيق بياناتها، ورفع سقف الدعم للمنشآت الصناعية لإقلاعها، ووضع تصور لدعم حوامل الطاقة، معتبراً أنه ما من دولة في العالم تريد إحياء صناعتها وزراعتها وترفع أسعار الطاقة دون أية بدائل أو تعويض!
أشار غصن إلى أنه مرحلياً لا بدّ أيضاً من التدخل المباشر للدولة للتخفيف من وطأة تأثير الأوضاع الاقتصادية على الشرائح الاجتماعية الفقيرة، وذات الدخل المحدود، وتخفيف الاحتقان الشعبي الذي لا يخفى على أحد اليوم. مؤكداً على أهمية ضمان تدفق السلع بين المحافظات، وداخل الأسواق لمواجهة الغلاء، من خلال التشدد بمنع الإتاوات والخوّات التي تفرض من قبل الحواجز، وعناصر المرور والجمارك وغيرها. أما إستراتيجياً، فيرى بأن تحديد هوية الاقتصاد السوري يجب أن يتم عبر فتح حوار بين مختلف أطياف المجتمع، وتوسيع دائرة النقاش حول مشروع «سورية ما بعد الحرب» الذي أقرته الحكومة دون مشاورات اجتماعية. وأنّه من الضروري إعادة العمل بالخطط الخمسية وفق منظور جديد، لأنه منذ بداية الحرب والحكومات تعمل وفق سياسية «يوم بيوم». كما أشار إلى إعادة تقييم العلاقات الاقتصادية الخارجية، ووضع إستراتيجية للتحولات المرادة في هذه العلاقات، فالتوجه شرقاً مُقرّ منذ عام 2005 ولم يدخل حيز التطبيق إلى اليوم! وأخيراً، أشار إلى ضرورة تحقيق دمج واقعي وحقيقي لكافة المناطق والمجتمع السوري عبر التنمية، منوهاً إلى أن كافة المناطق المحررة تقريباً لم تدخل قيد إعادة الاستثمار الزراعي حتى الآن!
أعاد غصن التركيز على العلاقات الخارجية والظروف السياسية، معتبراً أن الوصول سياسياً إلى أن تُجبر الإدارة الأمريكية على سحب قواتها من الجزيرة السورية سيتيح حل الكثير من المشكلات، ويفتح باب إعادة البناء الاقتصادي... معتبراً أن استعادة كامل محافظة دير الزور فقط يمكن أن يؤمن 200 ألف برميل نفط يومياً. ووفق غصن، يجب عدم التأمل بالغرب وإعادة الإعمار عبره، وأن فرص التعاون تبدو متاحة مع الدول الأخرى، مثل: دول البريكس وإيران وغيرها، ولا سيما فيما يتعلق بالخبرات والتقنيات وتجاوز العقوبات. أما حول دول الجوار، فإن استعادة سورية لموقعها الجيو اقتصادي هو أحد دعائم نجاح إعادة البناء، فمثلاً: ينبغي الوصول إلى واقع جديد يلزم أنقرة مثلاً لمراجعة حساباتها ومواقفها بما يتفق حتى مع مصالحها الاقتصادية والسياسية وفق غصن، وكذلك الأمر الوصول إلى مستوى أعلى من الانفتاح الأردني، وتحريك المعبر، وكذلك تحريك التجارة مع العراق.
أجمعت العديد من المداخلات والردود على أن إمكانية تجاوز العقوبات موجودة وأن المشكلة بالدرجة الأولى في العقوبات الداخلية
اختلال توازن المجتمع و«نوادي الاستيراد»
الناشطة الاجتماعية إخلاص غصّة، قدّمت مداخلتها حول الجوانب الاجتماعية للكارثة الإنسانية، مشيرة إلى أنّ المجتمع السوري اليوم بحالة اختلال توازن، معددة أوجه الصدمة الاجتماعية: الفقر والنزوح والوضع التعليمي والصحي، وتجليات التفكك الاجتماعي، وارتفاع مستوى العنف الذي يتجلى في طابع الجرائم والحوادث المتكررة... مشيرة إلى جملة مقترحات وضرورة تدارك الكارثة، كان من ضمنها الحديث عن وجود دراسات ومشاورات مع المجتمعات المحلية والبلديات في المناطق التي خرجت من دائرة العنف، وإمكانية وكلف تأهيلها، وإعادة الأهالي إليها واستعادة حالة الاستقرار في المجتمعات التي تصدعت.
أتت مداخلات الحضور واسعة ومتنوعة وتفصيلية في بعض الأحيان، د. جمال قنبرية: أشار إلى أن حل المشكلة معروف، ولكن يبدو أنه في مراكز اتخاذ القرار لا يوجد رؤية جامعة، بينما المطلوب اليوم انتشال الجميع في الظرف الحالي للأزمة الاقتصادية والإنسانية، وحتى على المستوى الفردي «كي أستطيع الاستمرار ينبغي أن يستمر الآخرين». مشيراً إلى العديد من التجاوزات، من الأسعار المتباينة لسعر القطع، إلى الأسعار المتباينة للمواد المدعومة، مشيراً إلى أن موازنة بـ 8 تريليونات فيها الكثير من الدعم الوهمي، بينما ينبغي أن يُعطى الدعم للمنتج عندما يتم تسليم إنتاجه.
حول العقوبات، أجمعت العديد من المداخلات والردود على أن إمكانية تجاوز العقوبات موجودة، وأن المشكلة بالدرجة الأولى في «العقوبات الداخلية» حيث أشار البعض إلى أن وجود «نوادٍ للاستيراد» مشكلة أساسية: «نادي السكر، ونادي الرز، ونادي الأعلاف وغيرها...» في إشارة إلى الاحتكارات الكبرى، وحصر استيراد هذه المواد بأسماء معروفة.
مداخلات أخرى، أشارت إلى مسائل تفصيلية، مثل: التساؤل عن عدم فتح المعبر مع العراق، والتباطؤ بهذا الأمر، بينما أشار آخرون إلى أن «تداخلات عديدة» تُعيق هذا الأمر، ولكنه قد يكون قيد الحل. كما أشار آخرون إلى الحوالات التي تصل تقديراتها إلى 13 مليار دولار، وبعيداً جداً عن آخر رقم رسمي معلن 3 مليار دولار، والتي لا تتم الاستفادة منها رسمياً، الأستاذ حلاق من غرف التجارة: أشار إلى عدم وجود أدنى مستوى من التنسيق بين الوزارات، وعدم وجود رؤية مشتركة، ووجود خطة عمل واضحة ومثبتة... معتبراً أن رسم خط ونهج واضح يسمح بالتكيّف مع الظرف الحالي، والعمل ضمن محدداته أياً تكن.
إحدى المداخلات، وضعت سؤالاً أمام المحاضرين، ربما تصعب الإجابة عنه دون الإيغال في السياسة، مشيرة: «العقد الاجتماعي الجديد هو الضرورة، ولكن كيف ينبغي لهذا الشعب المتعب أن يلزم الدولة بالمبادرة نحو هذا التغيير المنشود؟!».
دعوة لمنتدى اقتصادي اجتماعي
وأخيراً، قدّم المهندس باسل كويفي- الباحث الاجتماعي والسياسي، وهو الداعي ومنسّق الندوة- مداخلته، التي دعا فيها إلى تحويل الحوار الموسّع اليوم إلى منتدى اقتصادي اجتماعي للحوار، عبر عدة ندوات متتابعة، في مسعى لتشكيل نواة لحوار سوري عميق وموسّع.
«أمراء الحرب» تحدّ اقتصادي سياسي
مداخلة قاسيون قدمتها عشتار محمود محررة الشؤون الاقتصادية، مشيرة إلى أهمية الحديث عن منعطف اليوم باعتباره اقتصادي وسياسي، فالوضع الحالي غير قابل للاستمرار، واستمراره يفتح أبواب خطر الفوضى والتقسيم... وكل جهد اجتماعي مطلوب لمنع ذلك، إلّا أنه لا يمكن الوصول إلى الحلول دون توصيف الواقع بشكل حقيقي، وإن كانت الندوة قد تعدّت السقوف المعتادة، وقدم العديد من المداخلين طروحاتٍ حقيقية حول الحلول الواجبة، إلا أنه ينبغي الإجابة عن سؤال بسيط: إذا كان كل السوريين يعلمون تماماً ما هي الحلول، هل المشكلة في المعرفة والمعلومة؟ هل فعلاً لا يعلم أصحاب القرار ما المشكلة وما الحل؟ الجميع يعلم أنّه ينبغي إنهاء الفساد، وتعبئة الموارد وتوجيهها نحو الزراعة والصناعة وعموم الإنتاج، وإنهاء الكوارث الإنسانية... فلماذا لا تطبّق هذه الحلول؟! المشكلة والإجابة سياسية، أي: إن السبب في المصالح وتوازن القوى. ينبغي أن ندرك أي واقع اقتصادي سياسي نعيشه اليوم، ويمنع التقدم للأمام، إذ تمر مفردة «أمراء الحرب» عرضياً بينما الأرقام تعطينا قليلاً من الدلالة على حجم هذه الشريحة ودورها، فعندما تكون على سبيل المثال سوق الكبتاغون والحبوب المخدرة في سورية تصل إلى ما يقارب 16 مليار دولار، أي: ما يزيد على مجمل الناتج المحلي المقدّر في أعوام الأزمة... فيجب أن ندرك أي أوزان ومصالح تعيق الحلول الفعلية. هنالك مصالح وأوزان تمنع تجاوز العقوبات، وتحدد طريقة الاستيراد وأسعاره، وتجعل استيراد القمح والمازوت والرز والبنزين بأسعار أعلى، وهنالك مصالح وأوزان تريد أن يبقى الاقتصاد ريعياً وغير منتج، وأمام هذه الأوزان لا يمكن أن نصل إلى حلول إلّا بفرض وزن اجتماعي ومصالح شعبية مقابلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 996