الانهيار الخدمي والفساد والعقوبات... حلقة سياسية مفرغة
أزمة في البنزين، في الطحين والخبز، في الكهرباء، وقريباً في المازوت والغاز، هذا وتستمر أزمة الدواء وتتراجع إلى حد بعيد كميات أدوية الأمراض المزمنة في المستوصفات والمشافي العامة، بل حتى في الكتب المدرسية! نقص في جميع المواد الأساسية المستوردة لصالح جهاز الدولة، ورغم إيراد العديد من المبررات في التصريحات الحكومية إلا أن الواضح أن منظومة الاستيراد لصالح الدولة مضطربة وغير قابلة للاستمرار...
تتكرر الأزمات في المواد الأساسية التي تعتبر الحكومة مسؤولة عن تأمينها استيراداً، والتي توضع لها مخصصات مالية في الموازنة العامة، وأهمها: الطحين والمحروقات والأدوية. إنّ هذه المواد يتم استيرادها عبر عقود مع شركات الاستيراد الخاصة وكبار التجار، ولكن ليس أية شركات أو جهات! (بل محصورة بالمحظيين فقط)... وهذا لوجود مزايا عديدة في الاستيراد الحكومي.
4 مزايا للاستيراد لصالح الحكومة
أولاً، وقبل كل شيء، يعتبر الاستيراد لصالح الحكومة ميزة نظراً لوجود طرف عقوده مضمونة مالياً، والأهم أنها عقود كبيرة وهذه ميزة هامة... فعندما تحصل على عقد استيراد ملايين الأطنان من النفط الخام، أو المشتقات النفطية أو الأدوية أو الطحين فإن معدل ربح لا يتعدى 5% كفيل بتحقيق مليارات من الأرباح. أما الميزة المرتبطة بالوضع السوري فهي تتمثل بأن نسب الربح في العقود مع الحكومة أعلى بكثير، إذ يتبين أن السعر الذي تعطيه الجهات التنفيذية للشركات المستوردة أعلى من السعر العالمي بمعدل يصل إلى 40%، أي أن معدل الربح في الصفقات مع الحكومة مرتفع، والحكومة تبرر لمستورديها هذه التكاليف باعتبارها تكاليف العقوبات دون الحاجة إلى شرح مزيد من التفاصيل وآليات توزيع هذه التكلفة!
أمّا الميزة الأخيرة، تتمثل بأن الحكومة تموّل مستوردي موادها الأساسية بالقطع الأجنبي المسعّر بالسعر الرسمي، أي يصبح للمستورد المتنفذ صاحب العقود مع الجهات التنفيذية في الدولة ربح إضافي مضمون من حصوله على دولار بسعر قليل التكلفة، قابل للبيع في السوق بسعر السوق المرتفع لتحقيق ربح إضافي.
إنّ هذا المستوى من المزايا موزّع ضمن دائرة ضيقة ومهيمنة ضمن شبكة الفساد الكبير، التي تصل بين الجهات التنفيذية العليا وبين المرتبطين بها في قطاع التجارة الخارجية، وهي تعتمد تاريخياً على استنزاف المال العام لتأمين المواد الأساسية بكلف أعلى وربح أكبر، وقد كانت ولا زالت واحدة من آليات الفساد الكبير في سورية: (فالعقود الكبيرة للرؤوس الكبيرة)، وقد توسعت هذه العملية اليوم مع وجود العقوبات كغطاء لتضخيم التكاليف، ما يجعل الحصار فرصة لهؤلاء.
إن هذه المنظومة واضحة وصريحة بل معترف بها ويتم تبريرها في بعض الأوساط، إذ يعتبر البعض أن (الفاسدين الكبار أمّنوا استمرار تدفق المواد للبلاد)! وفق ما أشار إليه أحد المختصين السوريين في إحدى ندوات قاسيون دون مواربة.
ولكن بأي ثمن يتم تأمين هذه المواد؟ عبر استنزاف المال العام، وتجنيد المالية العامة لتجبي لهم الأموال من المنتجين ومن عموم السوريين داخل البلاد، بينما يتم إنفاقها على المواد الأساسية المستوردة التي تعتبر مصدر ربح أساسي لهؤلاء... ضمن منظومة يتبين أنها هشة وغير قابلة للاستمرار ومولّدة للأزمات.
ما الذي يجري اليوم!
لا يمكن الوصول إلى إجابة دقيقة حول أسباب ارتفاع وتيرة الأزمات، ولكن يمكن إجراء تقديرات ومقاربات منطقية للأسباب التي تؤدي إلى تعطل تدفق المواد الأساسية بالآلية السابقة:
أولاً: إن ارتفاع وتيرة الأزمات خلال العام الماضي والحالي، يترافق مع تشديد العقوبات والحصار الدولي، والذي طال على ما يبدو بعض الجهات المعنية بالاستيراد وحساباتها في الخارج، والتي أصبحت مضطرة إلى إيقاف أعمالها أو استبدال واجهاتها والبحث عن مناورات أخرى لاستمرار تدفق المواد. فالعقوبات التي لا تستهدف هؤلاء (بل تهدف أولاً وأخيراً إلى تعميق الأزمة الاجتماعية السورية والدفع نحو الفوضى) أدّت عملياً إلى تعطيل في هذه المنظومة، وأصبح تأمين تدفق المواد إلى داخل البلاد عبر هؤلاء أصعب، بسبب التضييق على نشاطهم التجاري وتحريك أموالهم.
أما ثانياً، لقد ارتبط تفاقم أزمات تأمين المواد الأساسية بالتراجع الاقتصادي والركود العميق المستمر منذ عام 2019، والمشتد خلال العام الحالي... حيث شهدت الليرة السورية عدة موجات انهيار في سعرها مقابل الدولار، وانعكس هذا مباشرة في تراجع إيرادات المالية العامة وارتفاع نفقاتها، وانخفضت قيمة الموازنة العامة لعام 2020 بنسبة 48% بأفضل الأحوال ووفق الأسعار الرسمية للدولار، وبنسبة 80% بأسعار السوق! الأمر الذي دفع إلى تقليص كتلة المستوردات بسبب عدم القدرة على تأمين التدفق المالي لتمويل عمليات الاستيراد السابقة بالكلف ذاتها، فتقلصت الكميات بينما بقيت الكلف على حالها (وربما تكون ارتفعت).
وهو ما يفسر السعي الحكومي المحموم لتأمين إيرادات للمالية العامة عبر أشكال الجباية المتنوعة، منها على سبيل المثال: احتمالات رفع أسعار المحروقات، ورفع أسعار مواد أخرى، مثل: الإسمنت وغيرها، حتى وصلت إلى أن تفرض رسوماً مخالفة للدستور، مثل: دفع المواطنين السوريين 100 دولار لدخول البلاد! عدا عن تخفيض الإنفاق العام، وتثبيت الأجور، حتى لو انخفضت قيمتها بنسبة تفوق 80% وفق ارتفاعات الأسعار في السوق المحلية بالمقارنة مع بداية العام!
مسار مسدود
إنّ المسار الذي سارت به السياسة الاقتصادية لتأمين الحاجات الأساسية، يؤدي موضوعياً إلى الأزمات. فهو باعتماده على شبكة محددة من المستوردين المتنفذين فسح المجال لتطال العقوبات في أي وقت هؤلاء، ويصبح من الصعب استيراد الكم الكافي من المواد الأساسية، أي رهن حاجاتنا الأساسية للعقوبات الدولية حتى لو كانت العقوبات لا تستهدف هذه المواد مباشرة.
كما أن هذا المسار القائم على إعطاء المتنفذين أرباحاً كبرى ودولاراً بسعر منخفض، زادت إلى حد بعيد نفقات المال العام الموزعة كحصص للفساد والربح الاحتكاري، وأصبح التراجع الاقتصادي ينعكس مباشرة في تراجع قدرة المال العام على تأمين الأساسيات وتمويل عقود الاستيراد ذات الكلف الاستثنائية. وهذا الحال ينسحب على استيراد مواد أساسية: الطحين لإنتاج الخبز، الوقود لإنتاج الطاقة الكهربائية، المشتقات النفطية للنقل والتدفئة وغيرها، والأدوية لتأمين حاجات المستوصفات العامة، التي كانت تزود أصحاب الأمراض المزمنة على الأقل بأدوية منخفضة التكلفة.
إنّ كافة الأزمات هي نتاج التواطؤ غير المباشر بين العقوبات والفساد، وهو يتم على حساب السوريين طبعاً، ويؤدي إلى تدهور واسع في الدور الخدمي والاقتصادي الذي يفترض أن يلعبه جهاز الدولة... فتداعي جهاز الدولة ذاته هو هدف العقوبات، وهو أيضاً نتيجة الفساد، الذي يعتمد هذه الخدمات وهذا الجهاز لتحقيق أعلى ربح ممكن في بلاد لم يعد للنشاط الاقتصادي الحقيقي متسع فيها.
وعندما نتحدث عن أرباح من نشاط الاستيراد الحكومي، فإننا نتحدث عن مئات مليارات الليرات سنوياً، وإذا ما أخذنا 2018 كمقياس فإن الربح من الاستيراد الحكومي ممكن أن يصل إلى 290 مليار ليرة، هذا إذا ما اعتبرنا أن نسبة الربح من التكاليف لا تتعدى 20% بينما الحالات الملموسة في العقود المعلنة تكاليفها تعدت النسبة 40% كما في القمح والبنزين على سبيل المثال لا الحصر. هذا عدا عن الربح الكامن في الفرق بين قيمة الدولار الرسمي الذي يحصل عليه المستوردون وقيمة الدولار في السوق، والذي يبلغ اليوم 950 ليرة على الأقل في كل دولار!
المسار البديل
مشروط باجتثاث الفساد
إنّ الخروج من أزمات تأمين المواد الأساسية كان ولا يزال ممكناً، ولكنه مشروط بتفكيك منظومة الفساد التي تدير عملية الاستيراد... أي إنهاء ربح المتنفذين الذي يُقاس بمئات مليارات الليرات، وتحويل الاستيراد إلى نشاط حكومي مباشر دون وسطاء! وهو ما يمكن أن يحصل (كما كررنا سابقاً) عبر العقود المباشرة بين الدول: من خلال ما طرحه الإيرانيون مثلاً بشكل مكرر لإنشاء علاقات مصرفية مباشرة بين البلدين والتعامل خارج منظومة المصارف الدولية التي تسمح بفرض العقوبات، أو التعامل بالعملات المحلية الأمر الذي يعتمده الطرف الروسي في تعاملاته الدولية، والذي أعلن عنه الرئيس الروسي مباشرة، بأن روسيا مستعدة للتعامل بالروبل مع الدول الأخرى، عدا عن الاحتمال الهام الكامن في الصين التي تفتح حسابات بعملتها اليوان مع العديد من البنوك المركزية عبر العالم.
وهذه إشارات ووقائع تمارسها دول العالم لتجاوز العقوبات، ولكنها لم تلقَ آذاناً صاغية في سورية حتى اليوم، بل لم نسمع حتى من (محللي الحكومة) حديثاً عرضياً عن التعامل بغير الدولار!
وطالما أن الحكومة تموّل هذه المستوردات بالدولار، فلماذا لا تحوّل هذا الدولار إلى حسابات مصرفية في الدول المستعدة لتجاوز العقوبات، وفي إطار معزول عن المنظومة المصرفية الدولية؟! ولماذا لا تتم عمليات الشحن عبر سفن حكومية ودون تكاليف إضافية، أسئلة وطروحات لم تُجب الحكومة عنها رغم طرحها مراراً، كما لا تجيب عن أسئلة أخرى، مثل: سبب ارتفاع كلف الاستيراد إلى نسبة 40% فوق الكلفة الأساسية!
إنّ تغيير منظومة الفساد واقتلاعها هو الوسيلة الوحيدة المضمونة لمواجهة العقوبات، وإلا فإن أي تدفق للمواد وأية عقود موقّعة ستتحول إلى عملية مؤقتة بأفضل الأحوال، لأنها ستُبتلى بالخسائر الكبرى الناجمة عن ربح الفساد الكبير، ولن يكون أي طرف إقليمي أو دولي حريصاً على فرض حل لمشكلة لا يسعى السوريون المعنيون إلى حلها بشكل جدي وجذري! وتحديداً، أن استمرار منظومة الفساد لا يسمح بحل المشكلة بل بمراكمتها، فطالما الفساد يكبر فإن المجتمع يُفقر والفوضى كهدف للعقوبات تبقى قابلة للتحقق...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 984