(الانفصال) الصيني- الأمريكي كاستراتيجية حرب اقتصادية
(الانفصال) decoupling هو المصطلح الذي أصبح الرئيس الأمريكي ترامب يكرره كثيراً مشيراً للصحفيين بأن يتذكروه، وذلك عندما يتحدث عن السياسة الاقتصادية الأمريكية تجاه الصين... وللمفارقة فإن المصطلح يحمل معنيين في الآن نفسه، إنّه يعبّر عن عملية فصل كيان عن كيان آخر، ولكنه أيضاً يعبّر عن كتم صوت وصدمة الانفجار النووي عبر إحداثه حفرة هائلة في الأرض، والمعركة الاقتصادية هي أداة الفصل وكاتم للانفجار النووي الذي تريده أمريكا!
يتصاعد التوتر الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الصين، التي أصبحت بمقياس القوة الشرائية أكبر اقتصاد عالمي، بناتج 21,4 تريليون دولار، مقابل 20,5 تريليون دولار للولايات المتحدة. والمختصون يعلمون أن هذا المؤشر هو الأهم لأنّه يعبر عن القدرة الفعلية على الإنتاج والاستهلاك، إنّه يعكس القدرة الفعلية للإنفاق الدفاعي والعلمي وقدرة المواطنين على استهلاك البضائع والخدمات.
ينتقل التوتر من الحرب التجارية وتقييد حركة البضائع، إلى محاولة تقييد الشركات العالمية الصينية والأمريكية التي تعمل بشكل متبادل في السوقين الأكبر عالمياً، مترافقاً مع التوتير العسكري والسياسي: في هونغ كونغ، وتايوان، وبحر الصين الجنوبي، وصولاً إلى العزل الدبلوماسي، حيث يتم تداول احتمال منع أكثر من 270 مليون مواطن صيني من السفر إلى الولايات المتحدة، وهؤلاء هم أعضاء الحزب الشيوعي الصيني والقادة الصينيين ومعظم المدراء التنفيذيين للشركات الصينية الهامة وأسرهم.
(محاربة العالمية)
عندما لا تستطيع أن تحافظ على هيمنتك العالمية، فعليك على الأقل أن تحافظ على مواقعك الأساسية، وتمنع الآخرين من التقدم نحوها. ربما تكون هذه الإستراتيجية المعبّرة عن التراجع الأمريكي واستيعاب المركز الغربي لتوازن القوى الدولي الجديد، المتمثل بالدرجة الأولى بالصعود الصيني، وفي التحالف الروسي الصيني، وفي التوسع الصيني في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وطرق أبواب أوروبا.
هذه الإستراتيجية التي يعبّر عنها الانقلاب الأمريكي السريع المتمثل بإدارة ترامب، والتي ترفع الحمائية التجارية عنواناً أساسياً، وتحارب بشكل منظم كل الأطر الدولية السابقة التي رسختها الولايات المتحدة في لحظة هيمنتها العالمية الأحادية، وأهمها: منظمة التجارة العالمية.
الشركات الكبرى العاملة على مستوى العالم هي أيضاً واحدة من الأدوات والتحديات الأساسية، وهنا تظهر عالمية الصين بشكل واضح.
في عام 2020 من بين أكبر 500 شركة عالمية أصبحت حصة الصين: 124 شركة مقابل 121 للولايات المتحدة، أما إذا أضفنا شركات تايوان إلى الشركات الصينية فإن العدد يصل إلى 133 شركة. وهذا العدد الهائل تحقق في وقت قياسي، ففي عام 2003 لم يكن عدد الشركات الصينية في قائمة الـ 500 الأكبر يتعدى 11 شركة، ومعظمها شركات دولة حجمها الكبير يأتي من ضخامة السوق الصينية وإدارة هذه الشركات لأصول كبرى في بلد المليار نسمة. ولكن هذا الواقع تغيّر اليوم فالعديد من الشركات الصينية هي شركات عالمية فعلاً، تتوسع في السوق الدولية، وتمتلك الريادة في قطاعات تكنولوجية هامة، ولعلّ أهمها وأكثرها توسعاً؛ هواوي، وتنسينت، التي تمتلك تطبيق وي تشات، وكلاهما هدف للتقييد الأمريكي.
محاربة الريادة التكنولوحية
إن تقييد الشركات يتقاطع مع هدف تقييد الريادة التكنولوجية الصينية، حيث إنّ انتقال الصين من الكم إلى النوع هو مسألة حساسة في الهيمنة العالمية، والفصل يستهدف هذه القطاعات أولاً وقبل غيرها.
وحول الريادة التكنولوجية الصينية قيل الكثير (قاسيون 979)، وتحديداً حول التسارع الصيني في احتلال المراكز الأولى منذ عام 2013 تقريباً. وهو المدعوم بالمقدرات التمويلية الاستثنائية للصين، وبحجم السوق المتمثلة بـ 1,4 مليار نسمة، والأهم بالإستراتيجية والإرادة السياسية الواضحة للريادة التكنولوجية المتمثلة في مشروع (صنع في الصين 2025).
وفي هذا المجال تعتبر (القوى العقلية أكثر أهمية من القوى الحاسوبية) والأسبقية هنا للصين بلا منازع، حيث يتخرج سنوياً 1,3 مليون من خريجي STEM (خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسات والرياضيات)، بينما تخرّج الولايات المتحدة سنوياً 300 ألف منهم، وتخرّج الصين 185 ألف في علوم الكمبيوتر مقابل 65 ألف في الولايات المتحدة، وحتى ضمن أمريكا فإن كل 10 من حملة شهادة الدكتوراه في علوم الكمبيوتر بينهم 3 أمريكيين، واثنان من الصين... ومعظم هؤلاء يعودون اليوم إلى الصين.
إنّ مجموع هذه القدرات يفسّر التسارع الكبير في سد الثغرات التكنولوجية، ولكنه لا يعني بأن العزل لن يؤخّر التقدم التكنولوجيي الصيني، فقطاع التكنولوجيا الصيني لا يزال مرتبطاً إلى حد بعيد بسلاسل التوريد العالمية، ومن بين عينة من 896 شركة صينية تعمل في مجال التكنولوجيا، فإن نسبة 57% من الموردين من العالم الخارجي، و30% من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
كما أن الثغرة المتمثلة بالاعتماد الصيني على أشباه الموصلات المستوردة يعتبر حتى الآن قيداً يعيق ريادة الصين، ويربطها بكبار المنتجين في اليابان والولايات المتحدة وألمانيا، ويشكل حداً لاستقلالية صناعة الهواتف الذكية الصينية، حتى بعد أن أصبحت أكبر منتج في العالم. ولكنه بالمقابل يربط كبرى الشركات المنتجة عالمياً بالسوق الصينية التي تشكل 60% من استهلاك أشباه الموصلات.
إن الفصل يؤدي إلى أضرار متبادلة للشركات التكنولوجية العالمية المتشابكة، ولكن إن كانت الصين تستطيع مع الوقت أن تسد هذه الثغرات محلياً، حتى لو كان الثمن تأخيراً، إلّا أن الشركات الغربية سيكون من الصعب أن تجد بدائل عن السوق الصينية حتى مع الوقت!
(فصل الأسواق)
لن تستطيع إستراتيجية الفصل الأمريكية والريادة التكنولوجية الغربية أن تستمر دون سوق كبرى... وهنا تأتي أهمية العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لن يكون لدى أمريكا متسع للسماح للعلاقات الأوروبية الصينية بالتطور، وتحديداً أنها تتركز في التكنولوجيا والطاقات البديلة والبنى التحتية، وهي أكثر القطاعات نمواً، كما تجلى في المؤتمر الافتراضي الأخير بين قادة الاتحاد الأوروبي والصين.
إن التقييد الأمريكي سيتسع غالباً ليحاول أن يفرض على الاتحاد الأوروبي- وعلى دول حوض آسيا والباسيفيك الهامة، كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا- الفصل عن الصين، والعقوبات الواسعة هي الأداة الفعالة المتبقية... والوقائع تقول إن أوروبا على الأقل لن يكون من السهل عليها التنصل إذا ما اضطرت للاختيار!
فالتبادل التجاري على طرفي الأطلسي البالغ 1,3 تريليون دولار يزيد على التبادل الأوروبي مع الصين بنسبة 80% والبالغ 718 مليار دولار. والأهم: هو حركة الأموال الاستثمارية الدولية التي تقدر بين الولايات المتحدة وأوروبا بـ 6,2 تريليون دولار، وأوروبا هي وجهة 60% من التدفقات الأمريكية، بينما أمريكا هي وجهة 58% من التدفقات الخارجة من أوروبا. وبالمقابل، تساهم الصين بنسبة 3% من التدفقات الداخلة إلى أوروبا، ويخرج من ألمانيا على سبيل المثال تدفقات استثمارية متجهة إلى الولايات المتحدة 8 أضعاف التدفقات التي تخرج إلى الصين.
لا يزال التشابك التجاري والمالي على ضفتي الأطلسي ضخماً بالقياس إلى علاقات المركزين الغربيين مع الصين، ولكن رؤية الاتجاهات في حركتها تفتح الكثير من الاحتمالات...
هيمنة المال مقابل النمو الحقيقي
إن جاذبية الولايات المتحدة الأساسية التي تستخدمها في تعبئة القوى الغربية حولها، لا تزال متمثلة في سوقها المالية وقدرتها على خلق المال من المال... فأكثر من 3 تريليون دولار تمّ ضخمها خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي، توجهت لتتحول إلى فقاعة في سوق أسهم الشركات الأمريكية، مجتذبة المال العالمي للاستثمار فيها. بينما جاذبية الصين الأساسية هي خلقها للثروة الحقيقية، فالنمو الحقيقي العالمي يتمركز في الصين حيث أكبر سوق عالمية.
وكلما قلّت جاذبية السوق المالية الأمريكية، كلما أصبحت الولايات المتحدة مضطرة لتحطيم جاذبية النمو الصيني بكل الطرق وصولاً إلى التدمير... وهو خيار صعب في عالم القوى النووية، إنّ الميل الأمريكي للتدمير قد يفسّر الإستراتيجية الهادئة الصينية في عملية التخلي عن الدولار والتحطيم البطيء لقطاع المال الأمريكي، لأن خسارة الدولار تعني زيادة الميل الأمريكي للعنف.
البعض يشبه الوضع الأمريكي بـ «فخ ثيوسيديدس» نسبة للمؤرخ اليوناني الذي عبّر عن استجابة أسبارطة لصعود أثينا بفخٍ أدى لحرب استمرت 30 عاماً... وإن كانت الولايات المتحدة تعتمد الأدوات الاقتصادية في هذه الحرب بهدف العزل والفصل، فإن الصين عليها أن ترفع أدوات السلم والوصل والترابط وجاذبية التعاون لتعبئ قوى الفضاء العالمي (غير الغربي) وتفرغ الخزان الأمريكي حتى من أقرب حلفائه بقوّة النمو والتطور.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 984